معنا هذه الآية الكريمة لا تجعلوا الله جل جلاله علة لإيمانكم وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الحير والإصلاح بين الناس قال: على يمين الله ألا أفعل ذلك أو قد حلفت بالله ألا أفعل، فيتعلل في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله، وجاءت هذه الآية بعد الآيات التي أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الايتام والنساء بجميل المعاشرة قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعللا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا فقال الله تعالى: أفعل الذي هو خير وكفر عن يمينك ولا تجعل الله عرضة.
والعرضة في اللغة لها عدة معان: الهمة والقوة يقال لفلان عرضة أي قوة وهمة على السفر والحرب والمعنى لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم وعدة في الامتناع عن البر.
قوله (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) يعني لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فحذف لا مثل قوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) أي لئلا تضلوا، ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس فليحنث في يمينه وليبر وليتق الله وليصلح بين الناس وليكفر عن يمينه.
والبر معناه فعل الخير كله وذلك أن أفعال الخير كلها من البر ولم يخصص الله في قوله (أَنْ تَبَرُّوا) معنى دون معنى من معاني البر فهو عام والبر بذوي القرابة أحد معاني البر.
وأما قوله (وَتَتَّقُوا) فإن معناه أن تتقوا ربكم فتحذروه، وتحذروا عقابه في فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تقعدوها.
وأما قوله (وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مأثم فيه، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه.
قوله تعالى (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقوله الحالف منكم بالله إذا حلف فقال “والله لا أبر ولا اتقي ولا أصلح بين الناس” وعليم سبحانه بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، لأنه جل وعلا علام الغيوب وما تضمره الصدور لا تخفى عليه خافيه وقوله سبحانه (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تهديد ووعيد.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
قوله (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ) أي لا يحاسبكم الله ولا يعاقبكم، قوله (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) اللغو في لغة العرب هو الكلام الزائد الذي لا يحتاج إليه أو الكلام الذي لا خير فيه ولا منفعة وفي الحديث “إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت”.
واليمين اللغو في الراجح عند العلماء هو قول الرجل في أثناء الاستعجال في كلامه ومحاورته لا والله وبلى والله دون قصد اليمين، واخرج البخاري في صحيحه عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “نزل قوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) في قول الرجل لا والله وبلى والله” وفي رواية عنها ايمان اللغو ما كانت في الهزل والمزاجه والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب.
والايمان جمع يمين، واليمين الحلف واصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت أخذ الرجل يمين صاحبة بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمى الحلف والعهد نفسه يمينا وقيل سمى يمينا من اليمين وهو البركة سماها الله تعالى بذلك لأنها تحفظ الحقوق.
قوله (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) معناه أن الله جل وعلا يحاسبكم ويعاقبكم بما تعمدت قلوبكم وهو حلف الحالف منهم على كذب وباطل متعمدا ذلك ويحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب فذاك الذي يؤاخذ به ويحاسب عليه.
قوله (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) هاتان صفتان لله سبحانه لائقتان بما سبق من عدم المؤاخذة والرفق والتوسعة، فالله يغفر لعباده سبحانه ما استعجلوا به في كلامهم ويرفع الحرج عنهم وصفة الحلم ومعناه التأنى مع الصفح مناسبة للاستعجال في الكلام والمزاح والمحادثة وانهم لا يقصدون التعمد في اليمين.
يقول الله تعالى في سورة البقرة (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قوله (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) أي يحلفون على نسائهم والمقصود بنسائهم زوجاتهم، وآلى الرجل على نفسه أقسم على نفسه ومنه قوله تعالى (ولا يأتل اولوا الفصل منكم) أي يحلف ومصدر يأتل ويولون الإيلاء، وهو الحلف على فعل شيء أو تركة في اللغة، أما في اصطلاح الفقهاء فهو يحلف الزوج بالله تعالى أو بصفة من صفاته التي يحلف بها ألا يقرب زوجته أربعة أشهر أو أكثر وذلك كأن يقول الرجل لزوجته، والله لا أقربك أربعة أشهر أو سنة أو يقول والله لا أقربك أبدا أو مدة حياتي أو والله لا اقربك ولا يذكر مدة، أو يقول والله لا تجمع رأسي ورأسك وسادة.
وكان الرجل في الجاهلية إذا غضب من زوجته حلف ألا يطاها السنة والسنتين أو ألا يطأها ابدا ويمضي في يمينه من غير لوم أو حرج وقد تقضى المرأة عمرها كالمعلقة فلا هي زوجة تتمتع بحقوق الزوجة ولا هي مطلقة تستطيع أن تتزوج برجل آخر فيغنيها الله من سعته، فلما جاء الإسلام أنصف المرأة ووضع للإيلاء أحكاما خففت من اضراره وحدد للمولى أي الحالف على ترك جماع زوجته أربعة أشهر وألزمه إما بالرجوع إلى معاشرة زوجت وإما بالطلاق عليه.
وورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى على زوجاته وسبب إيلائه سؤال نسائه النفقة ما ليس عنده ولذلك يجوز للرجل أن يحلف على عدم جماع زوجته دون الأربعة أشهر تأديبا لها كما إذا أهملت في شأن بيتها أو معاملة زوجها أو غير ذلك من الأمور التي تستدعي هجرها علها تثوب إلى رشدها ويستقيم حالها لقوله تعالى في مجال تأديب الزوجة (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) لكنه لا يزيد على أربعة أشهر وقد قال بعض العلماء بينا الحكمة في عدم هجران الزوجة أكثر من أربعة اشهر أن هذه المدة لا تستطيع الزوجة أو الزوج الصبر أكثر منها وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد وتقول:
| تطال هذا الليل واسود جانبه |
وأرقني إن لا حبيب ألاعبه |
|
| فوالله لولا الله لا أخشى غيره |
قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل |
|
| وعلى الله النبات |
لزعزع من هذا السرير جوانبة |
|
| مخافة ربي والحياء يكفني |
وإكرام يعلى أن تنال مراكبه |
فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك، فقالت: بعثت به إلى العراق، فاستدعى نساء فسالهن عن المرأة كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة، فجعل عز مدة غزو الرجل أربعة أشهر فإذا مضت استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، قوله تعالى (فَإِنْ فَاءُوا) معناه رجعوا، ومنه قوله تعالى (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) ومنه قيل للظل فيء، لأنه يرجع من جانب المشرق إلى جانب المغرب، والمقصود بالفيء هنا جماع الزوجة فعلا أو قولا وإن لم يجامعها لمرض أو حيض، قوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يغفر ما قد حصل من ترك جماع الزوجة رحيم بهما، وقوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعني إذا استوفى أربعة أشهر ولم يرجع إلى جماعها فعلا أو قولا يقع الطلاق ويكون عن طريق القاضي وهو الراجح عند العلماء لان حال الزوج بعد مضي أربعة أشهر يدل على عزمه على الطلاق وأنه لا يريد الزوجة وكذلك قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) بما في نية وقلب الزوج من أنه لا يريد الزوجة ولو أرادها لرجع إليها ولم يخالف شرع الله.


