التبرع بالأعضاء

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً، ونصلي ونسلم على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنتهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

إن عملية استقطاع الأعضاء ونقلها من إنسان إلى آخر تستدعينا الإجابة على ثلاثة أسئلة:

أولا: هل الإنسان يملك نفسه أو أن نفسه ملك لله فقط، وعلى كلا التقديرين هل يجوز له التصرف في نفسه فيسمح بنقل عضو منها إلى جسم آخر، إذا كان ذلك لمصلحة غيره دون ضرر على المتبرع.

ثانيا: إذا قيل: يجوز إيثار الإنسان لأخيه المسلم بما تتوقف عليه حياته مثل القليل من الماء ونحو ذلك فهل يقاس عليه جواز نقل ما تتوقف عليه حياة المريض من بدن إنسان آخر إليه مثل الكلية ونحوها بدون ضرر محقق يلحق بالمتبرع.

ثالثا: إذا قيل: إن إذن الإنسان بأخذ جزء من جسده لمصلحة جسده جائز شرعا فهل يقاس على ذلك إذنه بأخذ جزء من جسده لمصلحة أخيه المسلم بدون ضرر يلحق المتبرع.

وإجابه السؤال الأول نبينها بما ثبت في نصوص القرآن والسنة بما هو صريح في أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، لا مالك له سواه يتصرف فيه كيف يشاء ويحكم فيه بما يريد، بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ‌عَلَى ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ ‌وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الزمر: 62-63]، وبقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ‌وَتُعِزُّ ‌مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

ومن السنة فقد ثبت أن من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم قوله “اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك” إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي دلت على أن الله تعالى وحده رب كل شيء ومليكه والمدبر له والحاكم فيه، وقد أجمعت عليه الامة وعلم من الدين بالضرورة.

والله سبحانه وتعالى أوجب على بني أدم المحافظة على أنفسهم وأعضائهم وحرم عليهم الاعتداء عليها والإضرار بها، قال تعالى ﴿‌وَلَا ‌تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وأوجب القصاص في النفس والأعضاء أو الديه حسب اختلاف الاعتداء، وحرم الانتحار ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع “إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”.

بل حرم إهانة جثة الميت وأوجب احترامها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “كسر عظم الميت ككسره حيا”.

ويعتبر احترام الإنسان والمحافظة على نفسه وأعضائه وعدم الاضرار بها أصلا لا يجوز العدول عنه إلا بدليل شرعي يقتضي الاستثناء منه والخروج عنه.

ولم يرد نص شرعي من قول أو فعل أو تقرير يبيح نقل عضو من إنسان إلى غيره أو يعطي الحق لإنسان بنقل ذلك منه إلى غيره في حال اختيار أو اضطرار.

وغاية ما يرجع إليه في معرفة حكم نقل الأعضاء مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية والقياس على النظائر.

والقاعدة الكلية الشرعية في نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر تقول “إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما تحقيقا لزيادة المنفعة، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما”.

وتطبيقا لهذه القاعدة فإن مصلحة كل من الحي السليم والميت قد تعارضت مع مصلحة إنقاذ من أصيب في عضو من أعضائه، وقد حث الشرع على تخليص النفوس من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها، ولا شك أن في هذا مصلحة للمصاب أولا وجبرا لنقصه ومصلحة الأمة ثانيا، وسيرا على ما قضت به سنة الله شرعا وقدرا، وإذا تعارضت مصلحتان نظر أيتهما أرجح ليبنى الحكم عليها منعا أو إباحة ويكفي في ترجيح المصلحة غلبة الظن بما توصل إليه الطب.

وأما بالنسبة لأخذ عضو من ميت كالعين والكلية لزرعة في جسم حي إبقاء على حياته أو رغبة في نفعه وانتقاع الأمة به، فقد يكون واجباً إذا رُجى بنجاح عملية زرعة في الحي ولم تخش فتنة ولا حدوث خطر من جانب أهل الميت إيثار الحق الحي على الميت وإبقاء الحياة شخص أو تحقيقا لمنفعة عضو، وهذه المصلحة أرجح من مصلحة المحافظة على حرمة الميت.

أما إجابة السؤال الثاني: وهو إذا قيل بجواز إيثار الإنسان لأخيه المسلم بما تتوقف عليه حياته مثل القليل من الماء فهل يقاس عليه الإيثار بنقل ما تتوقف عليه حياة المريض من بدن إنسان آخر إليه بدون ضرر محقق يلحق المتبرع؟

يقول الله تعالى في سورة الحشر ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ ‌خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]  ، والخصاصة كما قال القرطبي في تفسيره الحاجة التي تختل بها الحال أي ولو كان بهم فاقة وحاجة.

والإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة، يقال: آثرته أي فضلته على نفسي.

ولا شك أن الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال، ومن المثال “الجود بالنفس أقصى غاية الجود”.

وفضيلة الإيثار يجب ألا تؤدى إلى هلاك المؤثر أو إصابته بضرر أو خطر فادح، بل غاية الإيثار أن يدل على من هو أحوج منه، ويمكن استدراك ما فاته بالأخذ بالأسباب العادية من غداء ونحوه كما هو معروف في نقل الدم.

وجواب السؤال الثالث: وهو إذا قيل: إن إذن الإنسان بأخذ جزء من جسده لمصلحة جسده جائز شرعا فهل يقاس على ذلك إذنه بأخذ جزء من جسده لمصلحة غيره من غير ضرر يلحقه؟

إن الجزء الذي يراد أخذه من جسد إنسان لزرعه فيه من أجل مصلحته أو لزرعة في جسم غيره قد يكون عضوا كالقلب والكلية والعين والرئة، وقد يكون جزءا من عضو كالقرنية أو قطعة من اللحم أو الجلد أو العظم ولا يتصور في الإنسان الواحد ولا يصح أن يعتبر أصلا يقاس عليه.

ولكنه إذا نقل إلى إنسان آخر فيمكن القول بجوازه إذا كان هناك ضرورة أو شدة حاجة تدعو إلى هذه العملية مع غلبة الظن وأمن الخطر من الناحية الطبية.

ومن هذه الأجوبة على هذه الأسئلة المعتمدة على قواعد الشريعة يتبين لنا ما يأتي:

  1. إن حفظ النفوس من الكليات الخمس ومن مقاصد الشرع، كما أن إحياء النفوس يعتبر من أعظم القربات لقول الله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ‌كَتَبْنَا ‌عَلَى ‌بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32] 

وإحياء النفس يكون بحفظها من هلاك أشرفت عليه؛ لأن الباعث على إنقاذ النفس هو الرحمة والشفقة ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية واحترامها، ويدخل في أسباب الهلاك بلا شك إشرافها بالمرض الميؤوس من شفائه إلا بواسطة نقل الدم أو زرع عضو مما يحفظ الحياة.

  • إن إنقاذ المشرف على الهلاك أو الواقع في مضرة شديدة يعتبر من فروض الكفاية على كل من استطاعه، فإن قام به بعضهم سقط عن الباقية وأثبت على فعله من قام به، وإن تركه الجميع أثموا جميعاً.
  • حيث إن هذا الإنقاذ يتم بتبرع الإنسان بجزء من دمة أو جزء من جسمه يتطوع عن اختيار واحتساب فإنه يعتبر من باب الإحسان وعمل البر والإيثار على النفس.
  • لا يجوز شرعا التبرع بعضو تتوقف عليه حياة الإنسان الحي كالقلب؛ لأن انتزاع عضو رئيس يؤدي إلى وفاته، ولا يجوز قتل إنسان لحفظ حياة آخر.
  • واستعمال أعضاء من مات لا يخلو من أحوال ثلاثة:
  • التبرع في حال الحياة أو الوصية قبل الممات فيجب إمضاء تبرعه وتنفيذ وصيته.
  • موافقة أوليائه الشرعيين على ذلك.

ج- التحقق من الموت قبل نقل العضو، فإن وقع مجرد شك من بقاء شيء من الحياة فيه فلا يجوز الإقدام على أخذ شيء من عضوه.

د- عدم المتاجرة بالأعضاء؛ لأن الجسم الإنساني ليس محلا للتعاقد لتنافي ذلك مع الكرامة الإنسانية.

والله أعلم

                                                                                                    د. خالد المذكور

Scroll to Top