الصيام ركن من أركان الإسلام الخمسة المعلومة من الدين بالضرورة، فهو فرض عين على كل مكلف، وفريضته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.
ومن السنة قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان”.
وقد أجمع المسلمون على ركنيته منذ فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، كما أجمعوا على كفر جاحده.
وللصيام عند الله منزلة عالية وفضل عظيم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”.
وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم وكثرة ثوابه، لأن الله سبحانه وهو الغني الكريم أخبر بأنه سبحانه يتولى بنفسه الجزاء وهذا يقتضي عظم الجزاء المقدر له من الكريم الواسع الفضل والعطاء، وإضافة الصيام له – سبحانه وتعالى – إضافة تشريف، لأن العبادات – جميعها – من صلاة وصدقة وذكر – لله سبحانه، ولكن الصيام يمتاز عن كل العبادات بخلوه من الرياء والنفاق والشرك، إذ لم يسبق للبشر في جميع أطواره الوثنية أن عُبِدَ غَيرُ الله بالصيام، فهو شعيرة وعبادة خاصة بالله تعالى.
ولذلك لم يكن باستطاعة احد أن يعرف مقدار ثوابها، وعظم فضلها إلا الذي فرضها وجعلها عبادة خاصة به، وأفضل قربة يتقرب بها العبد الصالح لمولاه، ولذلك كانت جُنَّةً متينة وحصنا منيعا، يقي ويحفظ صاحبها من الوقوع في المعاصي والفواحش في الدنيا، ويدعوه إلى المزيد من الإقبال على الطاعة والإكثار من التوبة والاستغفار، ويكسر شهوته فينقاد بنشاط وإشراقة روح لكل ما يرضي الله.
أما في الآخرة فإن الصيام سيكون جُنَّةً ووقاية له من السقوط في النار التي أعدها الله تعالى خزيا ونكالا لكل متكبر عنيد، ومن عرف مكانة الصيام وأهميته في حياة المسلم كان جديرا أن ينال عزة النفس وقوتها في الدنيا، والجنة ونعيمها في الآخرة.
ولم يكن المسلمون – ولا يزالون – يفرحون بشيء يعدل فرحهم بمواتاة فرص التنافس في البر والتسابق إلى الخيرات والإقبال على الله بالطاعة وإدخال الصالحات من الأعمال بقلوب سليمة بريئة من الهوى والنفاق والرياء وحب الظهور.
ولم يكن المسلمون أيضا يتأسفون على شيء فاتهم يعدل أسفهم على فوات فرصة أتاحها الله لبعض عباده فحُرِمُوا منها، ولكنهم كانوا يتخذون من ذلك زادا لشحذ الهمة على اغتنام الخير في أول فرصة قادمة، والله -عز وجل- رحمة بعباده الحريصين على اغتنام الفرص، جعل مواسم الخير وفرص التسابق إلى الطاعة واقتناص الرضا متاحة في كل وقت وحين.
وشهر رمضان أكبر موسم سنوي من مواسم الرحمة والمغفرة الإلهية التي جعلها الله عز وجل حبلا ممدودا بينه وبين عباده؛ ليتدارك المقصر ما فاته؛ وليزداد المقبل على اقتناص مرضاته، فهو المنحة الربانية التي يُعتبر الفائز بها فائزا بكل شيء، والمحروم منها خاسرا لكل شيء.
ولهذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحث صحابته على اغتنام الفرص التي تعظم فيها العبادة ويتضاعف فيها ثواب الطاعة، وتُفتح فيها أبواب المغفرة ويتنزل فيها فضل الله ونصره وتأييده للمؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: “ألا إن لله في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها”.
ورمضان أعظم نفحة ربانية ينبغي للمسلم أن يتعرض لها وألا تفوته، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – “ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل”.
ومن أعظم الأعمال المطلوبة من الصائم في رمضان ثلاثة أعمال:
أولها: تلاوة القرآن في شهر نزوله يقول تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ”. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان”.
ثانيها: الذكر والاستغفار والدعاء، فعن سلمان – رضي الله عنه – قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ , شهر فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً , كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّة، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ فِيهِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ كُلُّنَا يَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ، قَالَ: يُعْطِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَوسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ فِيهِ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، خَصْلَتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ..
ثالثها: الجود والإطعام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» متفق عليه.
وعن زيد بن خالد الجُهَنِي – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا”.
فيا أيها الصائمون هذا شهركم، وهذه فرصتكم فأروا الله من خضوعكم وطاعتكم وخشوعكم ليرضى عنكم ربكم ويباهي بكم ملائكته ويدخر لكم ما تقر به أعينكم يوم تلقونه جزاء عبادتكم وصبركم عن الشهوات التي انهارت أمامها نفوس عباد البطون والشهوة.
وهنيئا لكم هذا الشهر، وبارك الله صيامكم وتقبله منكم وأعاده عليكم بالنصر المبين والعزة للمؤمنين الذين لا يعتزون بشيء قدر اعتزازهم بدينهم وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
د. خالد المذكور