بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، ونصلي ونسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الأخوة الكرام:
إن استقصاء معاني الأخوة في الإسلام، وبيان هدفها وثمرتها، لا يخرج عن كونه تذكيرا لكل مسلم بأن يتخلق بها، وأن تكون صفة لاصقة به، حتى تبرز وتظهر في أقوال وتصرفات كل فرد مسلم مع أخيه في الإسلام؛ لأن المؤمن مرآة أخيه.
وإن وصف رب العالمين لعباده المؤمنين بأنهم أخوة في الإيمان كان حقيقة قائمة فيهم برزت آثاره في المؤاخاة التي حققها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكانت من أعظم العوامل التي أدت إلى قيام المجتمع الإسلامي في عهد الرسول بتضامنه وتماسكه وتعاونه، وكانت العامل الأكبر في تحقيق أكبر نصر عرفه التاريخ وأسرعه.
وواقع المسلمين اليوم يؤكد لنا أن هذه الأخوة في الإيمان لم تعد لها تلك الفعالية، وأن القليل من المسلمين اليوم يعطونها ذات الأهمية التي كانت لها من قبل، وإن مسؤولية من تسبب في انحسار مفهوم أخوة الإيمان كبيرة جدا، وهي مسؤولية كل مسلم غيور على دينه وحريص على انتسابه إلى الإسلام أن يحاسب نفسه بصدق عن تفريطه، وأن يعاهد الله على تدارك ما يستطيعه بنفسه وأسرته ومجتمعه حتى يظهر معاني وأهداف أخوة الإيمان ويطبقها، ويلتزم بها، وتنعكس على تصرفاته وعلى أفراد أسرته، ويكون أسوة لغيره ممن يشاهده فيذكره بحسن سلوكه، وبالتأسي به، بل يكون دافعا إلى إيمان غير المسلم بهذا الدين تأثرا من أخلاق هذا المسلم، وبذلك يكون له أجر من اقتدى به، وأخذ عنه إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئا.
إن معاني وأهداف أخوة الإيمان ليست مثالية يصعب على المسلم التخلق بها، بل إنها صفات واقعية سبق لأسلافنا التخلق بها، ولا يزال هناك – بحمد الله – من يتخلق بها على الرغم من قلتهم، فهي ليست أخلاقا خيالية، ولا أظن أن أحدا من المسلمين يزعم أن أخوة الإيمان ليست فرضا على كل مسلم ومسلمة، غير أن ضعف الهمة وغلبة الشهوات والانشغال بالماديات باعدت أكثرنا عن الأخذ بهذه المعاني، وإن كنا جميعا على يقين من أنها في صالح الفرد كما هي في صالح الأمة بأسرها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}.
وموضوعي هو أخوة الإيمان: معانيها وأهدافها، انطلاقا من قوله تعالى: “إنما المؤمنون أخوة” وتجاوبا مع شعار مخيمكم.
تطلق كلمة الأخوة في الإسلام على أخوة الدم وأخوة العقيدة، فأخوك من دمك مشارك لك في الولادة من أب وأم، ويقال له أخ شقيق، وسمى أخا؛ لأنه يتوخى (أي يقصد أخاه) أو من أحدهما، فيقال له أخ لأب أو أخ لأم أو من الرضاع فيقال له أخ من الرضاع.
ونظرا لما في هذه الأخوة من الصلة والمحبة والتماثل والتعاون فقد استعار كثير من الناس كلمة (يا أخي) أو (يا أيها الأخ) عندما يريد أحدهم مخاطبة من لا يعرف اسمه أو ليست له به صلة سابقة، فيتقرب إليه بهذه الصفة المحببة للناس جميعهم، وكان هذا من عادة العرب في تخاطبهم عندما يلتقي أحدهم بعربي غريب ولا يعرف اسمه فيناديه: (يا أخا العرب).
ونسبة الأخوة تجمع أواصر كثيرة منها:
- آصرة الانتساب والقرب.
- آصرة المحبة.
- آصرة الألفة.
- آصرة الصحبة.
- آصرة التماثل في الطباع.
- آصرة الارتياح وترك التكلف.
ولذلك كانت المناداة بها أُنْساً للنفس من نسبة البنوة والأبوة اللتين هما أقوى منها إذ تمتاز عليهما بما في الأخوة من التجرد عن كلفة التوقير والمهابة والطاعة.
وأخوة الدم المنحدرة من أبوين هي من حيث الترابط والتناصر أمر معروف ومشهور، وقد يقع بين هؤلاء الأخوة الأشقاء وغير الأشقاء من الشحناء والمنازعات ما يصل إلى سفك دماء بعضهم بعضا، كما حصل بين ابني آدم عليه السلام وفقا لما قصه علينا القرآن الكريم، وكما حصل ويحصل في العصور السابقة وعهدنا الحاضر، وإن قصص المنازعات بين الأخوة الأشقاء أو لأب أو لأم قد تكون أشد خصومة من مثلها بين الغرباء، وإن قصة يوسف عليه السلام مع إخوته لا تخفى على أحد.
ولما كانت هذه الصلة الأخوية الدموية هي مضرب المثل في التناصر والتعاون والتماثل، فإن الشريعة الإسلامية بنت عليها أخوة العقيدة لأنه ليست هناك آصرة تماثل أقوى منها.
وتطلق كلمة أخ في العقيدة على من يشارك شخصا آخر في معتقده، وقد يعبر عنه بلفظ (أخ في الدين) أو (أخ في الله) وهي الأخوة الإيمانية التي لا تقاربها رابطة مهما كانت وشائج القربى متينة، والأخوة الإيمانية مصطلح نشأ في ظل الإسلام.
وقد ميز الإسلام هذه الأخوة الإيمانية عن أخوة الدم ورفع من شأنها، لأنها أخوة مستمدة من عناصر روحية إيمانية لا تداينها في التقارب أخوة الدم، ولم يتجاهل الإسلام الأثر الذي تُبنى عليه أواصر القرابة – القريبة – فتبناه للتدليل على ما يريده من حقيقة الصلة بين أبناء العقيدة الواحدة، فقال عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وأكدت هذه الآية أن أخوة العقيدة الإيمانية لا تنفعهم عراها إلا بالردة والعياذ بالله.
وإن من أبرز مظاهر أخوة الإيمان مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار عمليا بعد هجرته إلى المدينة واستقراره فيها، فقال لهم “تآخوا بالله أخوين أخوين” وذلك توثيقا للصلات الإيمانية بينهم، وقد أيقنوا أن الواحد منهم سيرث أخاه في العقيدة، كما يرث أخوة الدم بعضهم بعضا، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، يقول السهلي شارح السيرة “آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة؛ لِيُذهِبَ عنهم وحشةَ الغربةِ ويؤنِسَهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه وتعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، يعني في الميراث ثم جعل المؤمنين كلهم أخوة فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}” يعني في التوادّ وشمول الدعوة.
وقد دفعت هذه الأخوة الإيمانية بين المهاجرين والأنصار أن عرض أحد الأنصار وهو سعد بن الربيع الانصاري – رضي الله عنه- على أخيه من المهاجرين وهو عبد الرحمن بن عوف أن يقاسمه ماله وأن يختار أيا من زوجتيه ليطلقها فيتزوجها بعد أن تنتهي عدتها، دون أي حرج أو تردد، وقد كان عرضا صادقا وصادرا عن طيب نفس ونابعا من أعماق قلبه، وهو مثل بسيط لما تفعله الأخوة الإيمانية بين المؤمنين عند وقوع الحاجة ووجود المقتضى.
وهذه المؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار ارتقت درجات إيمانية عليا لم تجد الإنسانية في تاريخها رابطة مثلها، فقد جمعت بين من كان أصله عبدا، ومن كان أصله سيدا، دون أثارة لهذه الفوارق التي كانت بارزة جدا أيام الجاهلية، فقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين زيد بن حارثة مولاه وبين حمزة بن عبد المطلب القرشي عم رسول الله، وزوَجَهُ زينب بنت جحش القرشية قريبة رسول الله، والتي أصبحت بعد أن طلقها زيد زوجةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمهاجرون تركوا ديارَهم وأموالَهم في سبيل عقيدتهم فاستقبلهم إخوانهم الأنصار بقلوب مفتوحة وأيادٍ مبسوطة حتى قال عنهم رب العالمين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9).
وهذه الأوصاف الكريمة العالية التي وصف بها رب العالمين المسلمين من المهاجرين والأنصار جعلت لسان حال من يأتي بعدهم من المسلمين يردد هذا الدعاء، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10)، وكلمة (لإخواننا) لم ترد بمفهوم أخوة الدم، وإنما تعني أخوة العقيدة لارتباطها بقوله سبحانه “الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ”.
وأخوة الإيمان والعقيدة لا تنفك عراها، ولا تنفصم روابطها مهما حصل بين المؤمنين من نزاع أو قتال ذلك أن الآية الكريمة “إنما المؤمنون أخوة”، وردت في صدد توجيه الله تعالى للمؤمنين بما يجب عليهم أن يفعلوه في حال نشوب قتال بين طائفتين منهم، فقال تعالى في سورة الحجرات {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 9-10).
ومن هذا يتبين أن الله –سبحانه- لم ينفِ عن المتقاتلين من المؤمنين صفة الإيمان على الرغم من أن القتال يتولد عن سفك دماء، وأن الواحد من الفريقين حريص على قتل خصمة الآخر، غير أن هذا الاقتتال بينهم ليس له دافع الخروج عن العقيدة من إحدى الطائفتين، وإنما هو خلاف مبني على تأويل أو على اجتهاد من إحداهما ضد الأخرى.
كما أن القتل الحاصل بين الأفراد من المؤمنين في جرائم القتل لا يزيل هذه الصفة عنهم أيضا؛ لقوله تعالى في سورة البقرة { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:178).
وهذا يدل على ان الإبقاء على الصلة الإيمانية – على الرغم من نشوب القتال بين المؤمنين – هو توجيه للمؤمنين أن لا يفسد عليهم أي أمر آخر مهما كان شأنه من الناحية المادية أخوتهم الإيمانية هذه.
وأخوة الإيمان تستلزم أن يكون الفرد مؤمنا لقوله تعالى “إنما المؤمنون أخوة” وللإيمان أركان وله مستلزمات ويمكن تلخيص أركان الإيمان بما يلي:
- الإيمان بالله، ويتضمن الإيمان بالغيب وباليوم الآخر وبالبعث وبالقدر خيره وشره.
- الإيمان بملائكته.
- الإيمان بكتبه.
- الإيمان بأنبيائه ورسله دون تفريق بين أحد منهم ويجمعها قوله الله تعالى في صفات المتقين في مفتتح سورة البقرة { الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 1-5) “، وما جاء كذلك في آخر سورة البقرة وهو قوله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285).
ومستلزمات الإيمان يؤكدها رب العزة سبحانه بمفهوم واسع يشمل كذلك أركان الإيمان وهو قوله تعالى في سورة البقرة: ” لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177) “، ومن مستلزماته كذلك قول الله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
فالإيمان تصديق بالقلب وعمل بالجوارح تؤكدها الآية السابقة التي عددت هذه المستلزمات وهي:
- إقام الصلاة.
- إيتاء الزكاة.
- ايتاء المال على حبه ذوي القربي واليتامى والمساكين والسائلين وفي الرقاب.
- الوفاء بالعهد.
- الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
- السمع والطاعة وطلب المغفرة من الله الذي إليه المصير.
وقد جعل رب العالمين من هذه الأوامر صفات لاصقة بالمؤمنين الذين صدقوا، فقال في سورة المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون:1-11).
ويضيف سبحانه في السورة ذاتها بعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون فيقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون: 57-61).
وجاء في سورة الشورى ما يتمم هذه الصفات الكريمة التي يتخلق بها المؤمنون فيقول سبحانه ” {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشورى: 36-39).
ومن صفات المؤمنين كذلك إصلاح نفسه واستقامتها على منهج الله ودعوة غيره إلى هذا المنهج القويم واستقلال فكره وقلبه، وعدم تبعيته لمنهج منحرف أو منحل يبتعد به عن منهج ربه القويم، ومن صفاته كذلك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر يقول تعالى في سورة فصلت: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 30-35)، ويقول تعالى في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71).
إن أخوة الايمان والعقيدة تستلزم هذا كله، أركانا، وواجبات، وأوصافا، لا ينفك عنها المؤمن، يلتزم بها، ويدعو إليها، ويحققها في واقع الحياة متماسكا، متحدا، متعاونا مع إخوانه في الله.
أيها الأخوة في الله، إذا كانت الأخوة في الله واجبة على كل مسلم بهذه الصفات الإيمانية التي سبق بيانها أخذا من كتاب الله وسنة نبيه، فما هي الوسائل التي يتبعها المؤمن لتحقيق هذه الأخوة في الله سبحانه وتعالى؟
إن هناك وسائل عدة لتحقيق هذه الأخوة منها وسائل تشريعية شرعها الله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ووضعها قواعد لتحقيق الأخوة الإيمانية، ودعا إلى الأخذ بها وتطبيقها ومن أظهرها صلاة الجماعة وأداء مناسك الحج.
وصلاة الجماعة لها صور عدة أكثرها تحققا الصلوات الخمس اليومية، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين.
ولا شك أن الصلاة جماعة في المسجد تحقق التقاء سكان الحي خمس مرات في اليوم، ولا شك كذلك أن هذا اللقاء اليومي المتكرر يزيد في التعارف، ويجعل الواحد ينظر إلى الآخر أنه أخوه في الإيمان لمشاركته الدائمة له في عبادة إله واحد، وفي التوجه إلى قبلة واحدة، وفي الانقياد المستنير لإمام واحد لأداء هذه الفريضة في حركات واحدة، وإذا غاب واحد منهم عن المسجد سأل الباقون عن سبب هذا الغياب والتعرف على الدافع إليه، فإن كان مريضا عادوه، وإن كان مسافرا تعهدوا اهله وقضوا حوائجهم، وإن مات شيعوه وكَفَلُوا أولادَه.
ولهذه المعاني وغيرها أمر الشارع بالتمسك بصلاة الجماعة وأكد عليها وأوجب على المسلمين حيث كانوا أن يحققوا في مجتمعاتهم هذا اللقاء اليومي المتكرر خمس مرات من طلوع الفجر إلى غسق الليل، وتأتي صلاة الجمعة في نهاية الأسبوع وكأنها تختم أعمال الأسبوع وتزكيها، وهي صلاةٌ يُسَنُ فيها التكبير في الذهاب إلى المسجد الجامع، ويسن فيها الاغتسال ولبس أنظف الثياب والتطيب، وأن يكثروا من الاستغفار وقراءة القرآن حتى يحين وقت الجمعة ويصعد الخطيب المنبر، وإن هذا اللقاء الأسبوعي المتكرر في المسجد الجامع يزيد في التعارف والتآلف والتراحم والتلاحم، ويؤكد على وحدة المسلمين وأنهم في كثرتهم هذه يستطيعون أن يفعلوا متعاونين ما يحقق الخير والقوة لمجتمعهم، وخطيبهم يذكرهم بما يجب عليهم في التعاون فيما بينهم في جلب الخير لهم، ودرء أي مكروه ينزل بهم.
وتأتي صلاة العيدين في مناسبتين يلتقي فيهما المسلمون على صعيد واحد خارج العمران إن أمكن ذلك، ولم تكن فيه مشقة، ويسن في صلاة العيدين حضور النساء ولو لم يستطعن الصلاة؛ لكي يشهدوا مع المسلمين مواسم الخير.
ومن الوسائل الشرعية لتحقيق الأخوة الإيمانية أداء مناسبك الحج، فهو لقاء واسع يأتي إليه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها؛ ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله وليؤدوا ركنا عظيما من أركان الإسلام، وتتجلى فيه الأخوة الإسلامية في أجلى مظاهرها؛ لأنهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يلبون بصوت واحد، ويؤدون مشاعر واحدة، ويلبس الرجال لباسا واحدا، ويتوجهون إلى الله سبحانه بالتلبية والاستغفار والدعاء استعدادا للقائه.
ومن وسائل تحقيق أخوة العقيدة: الوسائل الأخلاقية التي تؤكد معنى الأخوة وترسخ،ه وقد سبق أن عددنا الصفات الإيمانية التي يلتزم بها المسلم وهي جميعها من مكارم الأخلاق، ومن أهمها: العدالة، وهذه الصفة الأخلاقية لا يمكن أن يتنكر لها مؤمن؛ لأن المؤمن يتحرى العدل في جميع أموره، ومع جميع من يتعاملون معه، وهو بهذا الخلق يترفع عن أن تجرح عدالته منفعة مادية أو قرابة أو صداقة أو حتى عداوة؛ لأنه يلتزم بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90) ، ويقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8).
إن الإسلام يرفض التمايز بين الأفراد كما يرفضه بين الشعوب، والإسلام يحرص على تحقيق العدالة بين الجميع دون استثناء.
ومن وسائل تحقيق أخوة العقيدة تعاون المسلمين وتكافلهم في البيئات التي لا تساعدهم السلطات فيها على تحسين أوضاعهم، كالأقليات المسلمة، فإن واجب التعاون فيما بينهم يكون لازما، كلٌ حسب طاقته، بما ينهض بمستواهم ليتمكنوا من فرض أنفسهم وإسماع كلمتهم والحصول على حقوقهم.
ومن أهم وسائل تحقيق الأخوة ضرورة العمل المشترك، ذلك إذا رجعنا إلى تحليل معنى قوله تعالى “إنما المؤمنون أخوة” يتحقق لنا أن المراد من هذا الوصف أن المؤمنين بمجموعهم أخوة، وأن كل واحد منهم مرتبط بأخيه برباط الإيمان، وأنهم لا شأن لهم إن كانوا متفرقين؛ ولذلك نجد أن الخطاب في كثير من آيات القرآن الكريم يَرِدُ بصيغة الجمع “يا أيها الذين آمنوا”، “وتعاونوا على البر والتقوى”، “يد الله فوق أيديهم”، “انفروا خفافا وثقالا”، “وأمرهم شورى بينهم” وأمثال هذه الآيات كثيرة والتي يستفاد منها روح الجماعة والتناصر والتعاون المشترك بين المسلمين، وأن من الواجب على كل مسلم أن يحقق في نفسه ما يرجو أن يجده لدى أخيه المسلم في الأمور التي لابد من تضافر قواهم لتحقيقها، وأنه إذا ما تخلف أحد عن هذه المشاركة كان مسؤولا عن ذلك بشخصه، ولذلك فإن كلَّ فردٍ مسلمٍ مسؤولٌ مسؤوليةً مستقلة أن يحقق في نفسه هذا الاستعداد الذي ينتظره منه أخوه المسلم، وأن يبادر من تلقاء نفسه إلى مشاركة إخوانه في السراء والضراء، وأن يحافظ على الالتقاء معهم في جميع المناسبات التي أوجدها الإسلام ودعا إلى المشاركة فيها.
هذا وإن داء الانفرادية وانصراف كل فرد إلى مشكلاته الخاصة والاكتفاء بها دون اهتمام بمشكلات الآخرين هو من الأمور التي حاربها الإسلام، وقد ورد في الأثر “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، والاهتمام بأمر المسلمين هو أيضا اهتمام بصالح الفرد الذاتية، وتخاذل المسلمين في نصرة بعضهم سيعود ضرره عليهم جميعا، وسيذوق كل فرد منهم وبال تخاذله عن المشاركة في مد يد العون إلى غيره اقتضاء الضرورة.
والانفرادية لا تقتصر على الانعزال عن مجتمعات الناس والبعد عنهم، ومعالجة كل فرد من المسلمين مشكلاته بمفرده، وانما هي الإصرار على اتخاذ مثل هذه الحال الانعزالية والتصرف المفرد دون استعانة بإخوانه أو استشارتهم.