التقرب إلى الله

بسم الله الرحمن الرحيم

التقرب إلى الله

من الدروس الحسينية بالمملكة المغربية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهم واهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين، أما بعد..

فيا صاحب الجلالة أعزك الله بالإسلام، ووفقك للحق بالحق، وأعانك بعونه وبمدده، ونصرك على عدوك بكلمة التوحيد.

إن هذه الجلسات العلمية التي تعقد في ضيافتك وبتشريفك وحضورك في شهر جعله الله سيد الشهور وجعل ثمرة صيامه التقوى والتقرب إلى الله لهي سنة حميدة ورفعة للعلماء مجيدة قل مثيلها في العالم الإسلامي، واتبعت فيها سنة آبائك الكرام بتكريم العلماء وتشريفهم في حشد كريم أنت قائده وموجهه وهي بحد ذاتها من جليل النعم التي تتقرب بها إلى الله سبحانه.

يا صاحب الجلالة: إن المسلم حينما يواجه مشاكل هذه الحياة وتبعاتها محتاج في كل حين إلى أن يكون في معية الله سبحانه وتعالى، ولو نظر الإنسان في نفسه خلال يوم وليلة لتعجب من الحالات النفسية التي يتعرض لها، فهو لا ينفك عن الانقباض والانبساط، وعن الفرح والترح، وعن القلق والترقب والخوف والاطمئنان، يسمع ما يسره وما يكدر خاطره وما يجعله يطمع في هذه الدنيا فتأخذه على غرة نفيس آخرته وما أعده الله لعباده من نعيم مقيم، وما يجعله ضعيفا في مواجهة هذه الحياة فيأخذه اليأس وينسى الرجاء، وبدل أن يفر إلى الله بزيادة عبادته يفر إلى ارتكاب الكبائر والمحرمات.

ومن فضل الله علينا نحن المسلمين أن جعل لنا واحاتٍ نتفيءُ ظلالَها، ونأكل من ثمراتها، وننعم بالراحة والطمأنينة فيها، وهذه الواحات هي العبادات الواجبة والنوافل التي من جنسها، فالصلاة المفروضة، الموزعة خمس مرات في اليوم والليلة، لها من جنسها نوافل يتقرب فيها العبد إلى ربه ليست محدودة بوقت أو عدد، مع تجنب الأوقات المكروهة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

والزكاة المفروضة طهرة للمال ونماء له، وطهرة للصائم وجبرا لما وقع فيه، لها من جنسها الصدقات والإحسان والخيرات، وهي ليست محدودة بحول أو معدودة بنصاب.

والصيام الواجب في شهر رمضان مرة كل عام أو في قضاء أيامه أو في نذر، له من جنسه صيام التطوع طوال السنة في الأيام التي حث الرسول صلى الله عليه وسلم على صيامها كيوم عاشوراء وعرفة والاثنين والخميس.

والحج الواجب مرة في العمر له من جنسه أداء العمرة والمتابعة بين العمرة والعمرة، إذ يتحقق فيها السفر والاحرام والطواف والسعي مع أداء الحج تزودا وتطوعا.

والمسلم بحمد لله لا ينفك عن عبادة إلا وتتلوها عبادة، سواء أكانت واجبة أم كانت نفلا؟، وما تضيفه هذه العبادات من أثر إيجابي اجتماعي في حياته ومعاملاته وسلوكه، ومن أجر وثواب في آخرته، والمؤمن يتقرب إلى ربه بما يرضيه وبما افترضه عليه، ثم يزيد قربا ويزيد حبا في نوافله ومندوباته وحسن صلته بربه؛ حتى يصبح في معيته فيتقوى بذلك على مواجهة مشكلات حياته، ويعالجها بقربه من الله، لا بالبعد عنه، وبالتضرع إليه سبحانه، لا باستكباره، وبالإقبال عليه بما أوجب عليه، لا بالفرار من واجباته إلى ما نهى الله عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال لبلال: “أرحنا بها يا بلال” أي بالصلاة.

يا صاحب الجلالة من هذا المنطلق أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الرقاق في باب التواضع قال: “حدثني محمد بن عثمان حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نَمِرٍ عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ”.

وهذا الحديث يبين الله تعالى فيه مكانة المسلم الملتزم بطاعة ربه، المخلص في عبادته، المواظب على الواجبات والمندوبات، المبتعد عن المنهيات الذي يعرف ربه حقا وصدقا، المتواضع والمتذلل لربه سبحانه، والمتقرب إليه بصالح الأعمال، ومن كانت هذه صفاته فإن شأنه الحلم على من يعاديه، والصفح عن من يبغضه، ذلك أن المعاداة لا تكون في المعاملات الدنيوية والخصومات فقط، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب والغلو في الدين، فتسمى معاداة، ولكنها من جانب الولي تكون في الله، ومن جانب المبغض والمعادي تكون لنفسه وهواه، والحب في الله والبغض في الله من الصفات المذكورة في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله “رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه”.

وقد تكون المعاداة للولي من الفاسق المجاهر بفسقه، فيبغضه الولي في الله لأجل مجاهرته بالفسق، وعدم استحيائه من الله سبحانه، ويعاديه المجاهر بفسقه لأجل إنكاره عليه ونهيه عن شهواته، وقد تكون معاداة الولي عن طريق الحسد الذي هو تمنى زوال ولايته.

وفي هذا الحديث تحذير من إيذاء أولياء الله، ولكن يستثنى منه النزاع الذي يقع بين وليه في مخاصمة أو محاكمة؛ لاستخراج حق أو كشف غامض، أو مجادلة علمية، وليس عن بغض أو كراهية، كما وقع بين بعض الصحابة رضوان الله عليهم.

ويبين الله سبحانه وتعالى نتيجة هذه المعاداة لأوليائه بالإعلام بالحرب، ومعنى الإعلام بالحرب: إهلاك الله للمعادي؛ لأن الحرب تنشأ عن عداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة، ونتيجة هذه الحرب الهلاك؛ لأن الله سبحانه لا يغلبه غالب، فأطلق الحرب وأريد لازمه، أي إن الله يعمل به ما يعمله العدو المحارب من الإيذاء ونحوه، ومنه قوله سبحانه في سورة البقرة في النهي عن كبيرة الربا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 278-279).

وفي هذا تهديد شديد؛ لأن من حاربه اللهُ أهلكَه، فمن كره من أحب اللهُ، خالف اللهَ، ومن خالف اللهَ عانده، ومن عانده أهلكه الله، يقول ابن حجر رحمه الله في فتح الباري “وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله” ونقل ابن حجر عن الطوفى قوله “لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى، تولاه الله بالحفظ والنصرة”.

يا صاحب الجلالة: إن بدء الحديث بعدم معاداة أولياء الله وبالإيذان بالحرب من الله لمن يعاديهم لهو ظهير لعدم موالاة اليهود والنصارى ووجوب موالاة الله ورسوله والذين آمنوا بقوله تعالى في سورة المائدة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (المائدة: 51-53)”.

ثم يذكر الله سبحانه من صفات المؤمنين الذين يتخذون أولياء أنهم يحبهم الله ويحبونه متواضعين لإخوانهم المؤمنين أعزة على الكفار وأنهم مجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وهم كذلك يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم دائموا الركوع لله سبحانه فيقول تعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة: 54-56).

بل إن الله تعالى نهى عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إن كانوا كفارا، يقول تعالى في سورة التوبة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (التوبة: 23).

ولكي يصبح العبد وليا لله سبحانه يدافع ربه عنه يجب عليه أن يُخلص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يتقرب إلى مولاه صاحب النعمة والإحسان إليه، وقرب العبد من ربه يكون بإيمانه أولا، ثم بإحسان العبادة ثانيا، وقرب الرب سبحانه وتعالى من عبده يكون بما يخصه سبحانه به في الدنيا من نجاح وتوفيق وتيسير، وما يكون في الآخرة من عفو ورضوان، وأحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى أداء الفرائض أخذا من قوله “وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى ما افترضت عليه” ويدخل في عموم هذا القول جميع فرائض العين والكفاية؛ لأن الأمر بالفرائض جازم وتقع بتركها المعاقبة، بخلاف النوافل فإن الأمر بها غير جازم ولا تقع بتركها المعاقبة، وإن اشتركت النوافل مع الفرائض في تحصيل الثواب والأجر من الله سبحانه، والفرائض الأصل والأساس، والنوافل الفرع والبناء، فلهذا كانت الفرائض أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبا.

إن المسلم حينما يأتي بما افترضه الله عليه على الوجه المأمور به امتثالا للأمر وانقيادا وتعظيما واحتراما لأمر الله سبحانه وتعالى، وإظهارا لعظمة الربوبية وذل العبودية، واخلاصا لله سبحانه يكون بتقربه بذلك إلى الله سبحانه من أعظم الأعمال، فمن يؤدي الصلاة الواجبة بأركانها وشروطها وسننها واضعا في قلبه ومشاعره قول الله تعالى: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر”، فإنه يتقرب إلى ربه سبحانه بأحب الأعمال وأفضلها إليه، ومن يصوم رمضان إيمانا واحتسابا غير مستطيلٍ أيامه ولا مستثقلٍ صيامه، ولا يفرق بين الصلاة والصيام وإنما يأخذ أحكام الله واحدة، لا فرق بين حكم وحكم، وأمر وأمر، معتقدا أن الذي أوجب الصيام وفرضه هو من أوجب الصلاة وجعلها عماد الدين وهي التي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة، ومن يؤدي زكاته طهرة ونماء لماله غير شحيح، وإنما يؤديها معتقدا بحق الفقير والمسكين فيها امتثالا لأمر الله، ومن يؤدي فريضة الحج باذلا ماله الحلال غير مسوف ولا متراخ فإنما يتقرب إلى الله سبحانه بأحب الأعمال وأفضلها وأعظمها عند الله سبحانه. 

إن المسلمين اليوم وهم يواجهون ما يواجهون من أعدائهم أحوج ما يكونون إلى التقرب إلى الله بما افترضه عليهم في جميع مجالات حياتهم وإحسان أداء هذه الواجبات تجاه ربهم وأوطانهم وأمتهم، فلا يضيفون الواجبات ولا يتبعون الشهوات حتى لا ينطبق عليهم قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} (مريم: 59-63).

ونقل ابن حجر في فتح الباري عن أبي القاسم القشيري قوله “إن قُربَ الربِ بالعلم والقدرة عام للناس، وباللطف والنصرة خاص للخواص وبالتأنيس خاص بالأولياء”.

وإذا أدى المسلم الفرائض وأراد التقرب إلى الله سبحانه بالنوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى، أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن ربه” “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”، فمحبةُ الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل بعد أداء الفرائض، ويؤخذ من هذا أن النافلة لا تُقَدَمُ على الفريضة؛ لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فما لم تؤدَّ الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وداوم على ذلك تحققت منه إرادة التقرب إلى الله تعالى.

وهناك صور كثيرة متعددة لجهل كثير من المسلمين بالواجبات والسنن والنوافل، منها ما يدور الحديث عنه في شهر رمضان في عدد ركعات صلاة التراويح حتى إن بعض الناس يجادل بغلو وتزمت إلى حد نفرة القلوب منه، ويُلْزِمُ بعدد معين في ركعات صلاة التراويح!، التي هي نافلة، وليست واجبة، ولكن لجهل الناس بما هو واجب وما هو نافلة، فنراهم يتمسكون بالنوافل ويتركون الواجبات.

ومن هذه الصور –أيضا- ما يحدث من زحام شديد وأذى بليغ وضيق وتعسف في تقبيل الحجر الأسود عند الطواف، فينسى كثير من الحجاج والمعتمرين أن أذى المسلم حرام، وأن تقبيل الحجر نافلة ولكنهم لجهلهم ينسون الواجب وهو عدم أذى المسلم، ويوجبون النفل وهو تقبيل الحجر الأسود، والمراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض، وليس من أخل بها، وقيل من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفلُ عن الفرض فهو مغرور، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض يؤدي إلى جبر الفرائض، وهذا من جملة ما شرعت له النوافل، كما ورد في صحيح مسلم رحمه الله “انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته”.

إن كثرة التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل هي أن يكون العبد في معية الله وذلك في قوله “كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها” وقد وردت روايات فيها زيادات ذكرها ابن حجر في الفتح مثل حديث عائشة رضي الله عنها في رواية عبد الواحد “عينه التي يبصر بها” وفي رواية يعقوب بن مجاهد “عينيه التي يبصر بهما” بالتثنية، وكذا قال في الأذن واليد والرجل وزاد عبد الواحد في روايته “وفؤاده الذي يعقل به” ولسانه الذي يتكلم به، وشبيه بهذا في حديث أبي أمامه رضي الله عنه، وفي حديث ميمونة رضي الله عنها “وقلبه الذي يعقل به” وفي حديث أنس قوله “ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا”.

وهذه الثمرة هي غاية مطلوب المسلم من الله تعالى، وقد ساق ابن حجر في الفتح سبعة أوجه على تساؤل، وهو كيف يكون الباري -جل وعلا- سمعَ العبدِ وبصرَه؟ فقال في الوجه الأول: إن ذلك ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: إن عبدي يحب طاعتي، ويؤثر أمري، كما يجب هذه الجوارح التي لا يستغني عنها.

وقال في الوجه الثاني: إن المعنى أنه مشغول بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.

وقال في الوجه الثالث: أن المعنى أجعل له مقاص كأنه ينالها بسمعه وبصره، وقال في الوجه الرابع: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه، فكما يستعين الإنسان بهذه الجوارح على محاربة عدوه ينصره الله تعالى بالاستعانة به سبحانه.

وقال في الوجه الخامس نقلا عن الفاكهاني: إنه على حذف مضاف، والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه، وحافظ بصره الذي يبصر به فلا يبصر إلا ما يحل النظر إليه وهكذا.

وقال في الوجه السادس نقلا كذلك عن الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو أن يكون سمعه بمعنى مسموعه؛ لأن المصدر قد يأتي بمعنى اسم المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي.

وقال في الوجه السابع نقلا عن الخطابي: قد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجع في الطلب، ذلك ان مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة فلا تتحرك له جارحة إلا في الله ولله، فهي كلها تعمل بالحق للحق.

وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقولهم أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها.

والخلاصة كما قال الخطابي إن هذه أمثال لتوفيق الله سبحانه لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله.

إن ربنا سبحانه وتعالى لا ينفد عطاؤه، ولا يزول كرمه وهو جل وعلا موئل المتقربين إليه المستأنسين بقربه يعطيهم مسألتهم ويقيهم مما يخوفونه، وذلك في قوله “وإن سألني لاعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه”.

أي إن الله –تعالى- يعطي عبده ما سأل، فمن طلب الاستعاذة أعاذه الله مما يخاف، فمن أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لا يرد دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم، وأن المسلم المتقرب إلى الله تعالى ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبا لله لا ينقطع عن الطلب والدعاء من الله لما فيه من الخضوع لله وإظهار العبودية له سبحانه.

وإجابة الله لدعاء عبده المتقرب إليه حاصلة بالتأكيد، ولكنها تتنوع، فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخر المطلوب لحكمة فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث يعلم الله تعالى أن المطلوب ليس فيه مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها.

وفي هذا الجزء من الحديث يتبين عظم قدر الصلاة، فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها إلى الله، ذلك أنها محل المناجاة والقرب، ولا واسطة فيها بين العبد وربه، ولا شيء أقر لعين العبد منها، ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع “وجُعِلَتْ قرةُ عيني في الصلاة” ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته.

وفي الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه “وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا اكره مساءته”، فالتردد في حق الله تعالى غير جائز، والتردد له تأويلان ذكرهما الخطابي فقال:

أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقةٍ تنزل به فيدعو الله فيشفيه منها ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه، فيتركه ويعرض عنه ولابد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، ذلك أن الله سبحانه قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه.

والتأويل الثاني: أن يكون معناه ما تردد رسلي في شيء أنا فاعله، كترددي إياهم في نفس المؤمن، والمعنى على التأويلين أن الله سبحانه عطوف على عبده لطيف به شفيق عليه، وأرجح الأجوبة عن التردد الواردة في الحديث ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن ابن الجوزي: وهو أن هذا خطاب لنا بما نعقل والرب سبحانه منزه عن حقيقته، بل هو من جنس قوله “ومن أتاني يمشي أتيته هرولة” فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديبا فتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما، ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد، بل كان يبادر إلى ضربه لتأديبه، فأراد الله سبحانه تفهيمنا بتحقيق محبته لعبده المتقرب إليه بذكر التردد الذي يشعر به كل والد حينما يود ضرب ولده وتردده في ذلك.

وقوله “يكره الموت وأنا أكره مساءته” كراهة الموت هنا هي بسبب ما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته، والموت حتم مقضي، وهو مفارقة الروح للجسد، ولا تحصل غالبا إلا بألم عظيم جدا، كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت فقال: كأني أتنفس من خرم إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قامتي إلى هامتي، فلما كان الموت بهذا الوصف والله سبحانه وتعالى يكره أذى المؤمن أطلق على ذلك الكراهة”.

ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين، فيريد الله إكرامه بقبضه إليه؛ حتى لا يتأذى بكبر سنه وتخلف عقله في الكبر.

إن العبد المتقرب إلى الله سبحانه بالواجبات والمندوبات يكون وليا لله سبحانه ويكون مستجاب الدعاء لقوله سبحانه وتعالى “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون”.

ويدخل في الواجبات الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، والفرائض الباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه، ويتناول كذلك الامتناع عما حرمه الله كشرب الخمر والزنا وغير ذلك من المحرمات.

ومما يعين العبد المتقرب إلى الله سبحانه على طاعته وعبادته لربه وجود البيئة الصالحة الملتزمة بشرع الله في تحريم ما حرمه الله والالتزام بما أوجبه وفرضه على المستوى الفردي والأسري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والإعلامي في كل آن وحين، وليس في المناسبات والمواسم فقط حتى نعتز بقربنا من الله سبحانه وتكون عبادتنا لله -جل وعلا- مبنية على أساس قوي مرتبط بالإيمان بالله عقيدة وشريعة وسلوكا.

يا صاحب الجلالة: ونحن نستقبل ليلة هي خير من ألف شهر، ليلة القدر في شهر رفع الله قدره وفرض صيامه وحث على قيامة تقربا إليه، وفي العشر الأواخر من رمضان، نرفع أكف الضراعة بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى أن يقربنا إليه بالعمل الصالح وبالمنهج الصالح وبالحياة المستقيمة على عقيدته وشريعته.

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا، اللهم بحق ما تلي في هذه المجالس المباركة من كتاب ربنا وحديث نبينا وأقوال فقهائنا وعلمائنا اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء حزننا وذهاب غمنا وهمنا، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم ياذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال و الاكرام يا محيطا بالليالي والأيام نسألك يا أرحم الراحمين ويا جار المستجيرين نسألك إيمانا لا يرتد ونعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ولذة النظر إلى وجهك الكريم ومرافقة نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.

وأسأل الله العظيم في هذه الليلة المباركة يا صاحب الجلالة أن يثبتكم على الحق وأن يوفقكم إلى ما يرضى الله ورسوله وأن يحفظكم ويرعاكم …. عهدكم الأمين وسائر أفراد أسرتكم، وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

د. خالد المذكور

Scroll to Top