الإبراء من الدين مطلوب شرعا على جهة الندب، وذلك لأنه نوع من الإحسان لأنه في الغالب يتضمن إسقاط الحق عن المعسر الذي يثقل الدين كاهله، وحتى إذا كان الإبراء للمدين غير المعسر، فإنه مطلوب شرعا كذلك؛ لأن فيه معنى البر والصلة بين الدائن والمدين، ودليل ذلك قوله تعالى في سورة البقرة ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280] ، ووردت أحاديث كثيرة في الإبراء من الدين كله أو بعضه، منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين قام بوفاء دين أبيه، وحديث معاذ بن جبل وكعب بن مالك رضي الله عنهما، حين أعسرا، حيث ثبت حضه صلى الله عليه وسلم الدائنين على إسقاط كل الدين أو بعضه عنهم.
ومن أهم شروط الإبراء عدم منافاته للشريعة الإسلامية، وهذا ما اتفق عليه الفقهاء وتدل عليه القواعد العامة للشريعة بأن يكون في الدين ربا كالافتراض من البنوك الربوية الذي ينص على الزيادة المشروطة على مبلغ الدين، فإن العقد باطل عند الفقهاء فاسد عند بعضهم، وألا يقترض المدين للكماليات، وإنما يقترض للضروريات أو الحاجات التي تنزل منزلة الضروريات، وأن يكون المدين معسرا حال انتهاء مدة الدين وليس قادرا على تسديد الدين.
والغالب في عصرنا الحاضر أن الاستدانة تكون من المصارف الربوية، أو تكون بأخذ أدوات التمويل وفق الشريعة كالمرابحة أو التورق بشروطه وقيوده، وكل ذلك يترتب عليه دين في ذمة المدين للبنك الدائن، فإن كان المدين استدان من مصرف ربوي، فعند بعض الفقهاء يبطل الشرط بالزيادة على القرض ويصح العقد، ويكون الدين على المدين مطالبا به الدائن دون زيادة على أصل الدين وإن كان الدين مطالبا به المصرف الإسلامي فنتيجة معاملة مشروعة، وكان المدين معسرا فينبغي عليه شرعا أن يمهله مدة كافية لسداد الدين لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) ، وإن كان المدين بعد الإمهال مماطلا فيرفع أمره إلى المحاكم وإن كان طرفا ثالثا قادرا على تسديد الدين عن المدين المعسر للدائن المطالب بدينه أو بحكم محكمة أو بعرض يرضي به الدائن لإسقاط وإبراء المدين حسبه الله فلا بأس، ولو كان هذا الوفاء منه بشروط كتأجيل الدين إلى يسر المدين أو تقسيط الدين على مدد طويلة بلا زيادة فهو حل الإشكال كدين بنوك الائتمان المملوكة للدولة وغيرها.
وأريد أن أبين هنا ما يتعلق بالدين من جهة المدين والدائن سواء أكان الدائن فردا أو مصرفا من الناحية الشرعية، حمكا وباعثا وشروط صحة وأثرا.
فالأصل في الاستدانة الإباحة لقوله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282] وهذه الآية من أطول آيات القرآن الكريم في سورة البقرة، وقد تعتري الإباحة أحكام أخرى بحسب الباعث على الاستدانة فقد تكون الاستدانة واجبة للمضطر لبقاء حياته وأمنه، وقد تكون محرمة فيمن يستدين قاصدا المماطلة أو جحد الدين، وقد تكون مندوبة في حال عسر المدين، وقد تكون مكروهة إذا كان غير قادر على الوفاء وليس مضطرا للاستدانة.
ويتبين من حكم الاستدانة مشرعا الباعث على الاستدانة، فتجب الاستدانة على المضطر لحفظ نفسه، لأن حفظ النفس مقدم على حفظ المال أو لنفقة أولاده الصغار الفقراء أو الاستدانة لحاجة تنزل منزلة الضرورة مثل أجهزة حفظ الطعام المبردة والتكييف في الحر الصائف في بلادنا في الخليج، أما ما يتعلق بالدين من جهة الدائن فلا يجوز للدائن أن ينتفع بالاستدانة بأن يشترط على المدين زيادة على دينه كما قلنا سابقاً.
وينبغي على الدائن وهو في الغالب المصارف أن يعرف اضطرار المدين أو احتياجه للاستدانة ولا يستغل حاجته أو يغريه بالاستدانة منه لكماليات وترفهه، بل يعينه على البدائل الشرعية التي تغنيه عن الاستدانة كالمرابحة والمشاركة فيستفيد المدين والدائن وعلى البنك المركزي دور كبير ومهم في توصيه المصارف إلى ذلك.
وهذا الذي ذكرناه سابقا من أهم شروط صحة الاستدانة، ومن شروط صحتها كذلك ألا يضم لعقد الاستدانة عقد آخر سواء شرطه في عقد الاستدانة أو تم التوافق عليه خارج العقد كأن يؤجر المدين بينه للدائن أو يستأجر المدين بيت الدائن لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم “نهى عن بيع وسلف”
أما أثر الاستدانة فيكون في حق المطالبة وحق الاستيفاء، فيجب الوفاء على المدين عند حلول أجل الدين لقوله تعالى ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 178] ، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم “مطلُ الغنى ظلم”.
ومن أثر الاستدانة حق الدائن في منع المدين من السفر إذا حل موعد استيفاء الدين إلا إذا كان للمدين كفيل أو رهن يستوفى منه الدائن.
والله أعلم
كتبه
الدكتور خالد مذكور عبد الله المذكور