إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد إلا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله. أما بعد.
عزيزي القارئ:
نقصد بالشبهات التي تثار حول تطبيق الشريعة كل تصور من شأنه أن يمنع صاحبه من القناعة التامة بصلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق بقطع النظر عن صدق هذا التصور أو خطئه.
وخصوم الإسلام يثيرون كثيراً من الشبهات للتشكيك في صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق وهي شبهات مردودة كلها.
الشبهة الأولى:
إن الشريعة الإسلامية لا تساير تطورات العصر لأن مصدرها الوحي، ولا يملك الناس إزاء نصوصها سوى السمع والطاعة، فهي شريعة تتسم في مجموعها بالجمود ولا تلبي حاجات المجتمع المتطورة.
وللرد على هذه الشبهة نقول: إن نصوص القرآن والسنة جاءت عامة تضع المبادئ الأساسية والثوابت التي لا يستغني عنها الإنسان في حياته لإصلاحه واستقامة أحواله وتنظيم شؤون الحياة الإنسانية.
ولا شك أن في الحياة الإنسانية حقائق ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل كالغرائز الفطرية والفضائل الأخلاقية، ومبادئ العدل والمساواة والالتزام بالعقود، وأسس الحياة الزوجية، والتنمية الاقتصادية، والنظام الاجتماعي، والتوازن بين الحقوق والواجبات، والعقوبات الرادعة في انتهاك حرمات الكليات الضرورية.
ففي النظام الاجتماعي شرع الله سبحانه وتعالى الزواج، وبينت الشريعة أصول عقده ووضحت الحقوق والواجبات، وحرمت الزنى، وفرضت الحجاب على المرأة منعا للفساد، وفي الحقوق الخاصة بالمعاملات والجنايات والحقوق العامة في النظم الإدارية نصت الشريعة على مبادئ المعاوضات المالية في التجارة والإجارة والدين والرهن، وحرمت الربا وآكل أموال الناس بالباطل، وحددت عقوبات الجرائم الكبرى في الاعتداء على الدين أو النفس أو العرض أو المال أو العقل، وأقرت مبادئ الحرية والمساواة والشورى وحق الإمام أو الحاكم أو رئيس الدولة وواجباته، وحق الله في المال، وأوضحت القواعد التي تقوم عليها علاقة الدول الإسلامية بغيرها سلما وحرباً.
وتركت الشريعة الإسلامية النصر على جزئيات الأحكام لوسائل التطبيق الاجتهادي حسب المصالح الشرعية والحاجات الزمنية المتطورة، ومن المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في الأحكام الفقهية الاجتهادية، وتلك الأحكام الاجتهادية هي التي تخضع للتطور والتغير بسبب تغير مناطها والأسس القائمة عليها، أو بسبب تغير اجتهادات المجتهدين، وقد اشتهر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في حادثة بحكم، ثم رفع إليه نظيرها فتبدل اجتهاده، وقضى فيها بخلاف قضاءه الأول، فقيل له في ذلك فأجاب تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي، وجرت كلمته – رضي لله عنه – مجرى الأمثال وأسس الفقهاء قاعدة فقهية تقول: (لا يُنْكَرُ تغيرُ الأحكام بتغير الأزمان)، أي إن كثيراً من الأحكام يبنيها المجتهد على ما كان في زمانه، وتختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهل الزمان، أو لحدوث ضرورة او لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء النظام على أحسن إحكام.
وأمثلة هذه القاعدة كثيرة في الأحكام الاجتهادية منذ عهد الخلافة الراشدة فقد اتفق الصحابة – رضوان الله عليهم – في عهد الخلافة الراشدة على تضمين الصناع مع أن الأصل أن أيديهم على الأمانة ولكن وجدوا أنهم لو لم يضمنوا لاستهانوا بالمحافظة على أمتعة الناس وأموالهم، وفي الناس حاجة شديدة إليهم، فكانت المصلحة في تضمينهم ليحافظوا على ما تحت أيديهم، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تضمينهم “لا يُصلح الناس إلا ذاك”.
الشبهة الثانية:
إن الإسلام يجب أن يُفهم على أنه مجرد معتقدات وعبادات تؤدي في المساجد فقط أما نظام الدولة ومنهج المجتمع ومعاملات الناس وقضاياهم فليس للإسلام تدخل فيه، بل يعود ذلك إلى ما يراه الناس حسب ما تقتضيه مصالحهم.
وأصحاب هذه الشبهة يقعون في تناقض كبير يكمن في قبولهم الدين الإسلامي عقيدة وعبادة ورفضه نظاما وتشريعاً.
والعقيدة من التشريع ونظام الحياة كالجذع من الأغصان وثمارها، فإذا غرست العقيدة في القلب غرسا صحيحا فلا بد أن تمتد منها إلى حياة صاحبها فروع وثمار تتجلى في منهج للحياة ونظام للسلوك، والدين – أي دين – إنما يوحي الله به إلى رسله لإصلاح القلوب بالعقيدة الصحيحة، وإقامة الحياة على منهج الله السديد. وتوجيه الناس إلى الخير والفلاح، والأخذ بيدهم إلى الفوز في الدار الآخرة، وما من رسول بعث إلى أمة من الناس إلا وجاءها من عند الله بتشريعات تتفق وحياتهم، وتتسع للفترة التي تنتهي ببعثة من بعده من الرسل، ولا سيما ما جاء في رسالة نبي الله موسى عليه السلام فيما يتعلق بالمعاوضات المالية والمعاقبة على التفريط فيها، يقول تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا . وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، (النساء:160-161)، وقوله سبحانه وهو يحدثنا عن التوراة فيما يتعلق بحرمة النفس { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، كما جاء أمر الحكم في التوراة بقوله تعالى “إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون” وفي الإنجيل بقوله تعالى “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه”، وما أرسل الله رسله بالعقائد التي ابتعثهم بها إلى الناس إلا لتكون برهانا على ضرورة انضباطهم بما يتفق معها من الأخلاق والأعمال والعلاقات، وإلا لكان الإلزام بهذه العقائد وحدها عبثا إذ لا قيمة للإيمان بألوهية الله وحده وبعبودية الإنسان له وتساوى الناس جميعاً في عبوديتهم له إذا كان أصحاب هذا الإيمان أحرارا بعد ذلك في حياتهم حياة الأحرار المالكين لمصيرهم وأقدارهم، لا حياة عباد الله الخاضعين لسلطانه والدائرين في أقداره. ونظام المجتمع ومعاملاته في شتى المناحي هي من الدين إذ إن الشريعة الإسلامية تتناول كل جانب من جوانب الحياة البشرية حكماً وقضاء وإدارة وعلاقة بين الراعي والرعية.
الشبهة الثالثة:
إن أحكام الشريعة الإسلامية في القصاص والحدود أحكام قاسية لا تساير روح العصر، وتحمل الناس قسراً على الدين ولا تراعي نفسية المجرمين وفيها وحشية تهدر الكرامة الإنسانية.
ورداً على هذه الشبهة نقول: إن هناك حقيقة هي محل وفاق عند جميع علماء الشرائع والقوانين مهما اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب، وهي أن عنصر القسوة من حيث ذاتها يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة فلو فقدت القسوة فقدت معها العقوبة بدون شك وأن الذي يحدد درجة العقوبة وقسوتها على جريمة ما هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها، أي إن تحقيق معنى العقاب يستلزم أن تشتد القسوة فيه كلما ارتفعت الجريمة في سلم الخطورة وتركت آثارها السيئة وأن تخف القسوة في العقاب كلما انخفضت الجريمة في درجات السلم ذاته.
وتقويم الإسلام لخطورة جرائم الردة عن الدين، وقتل النفس، وانتهاك العرض وسرقة المال، وتغييب العقل هو الذي بني عليه عقوبة قتل المرتد وعقوبة القصاص في النفس والأطراف وعقوبة الزنى والقذف وعقوبة السرقة والحرابة وعقوبة شرب الخمر، وكل عقوبة من هذه العقوبات تتناسب مع خطورة جريمتها وآثرها السيء على الناس، واخلالها بمقاصد الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية تنظر إلى هذه الجرائم التي شرع في حقها الحدود على أنها أمهات المفاسد التي من شأنها أن تقضي على جوهر المصالح أو الكليات الخمس التي يدور عليها سائر ما قد شرعة الله لعباده من أحكام.
وكل دولة تنظر إلى جسامة الجريمة حسب فلسفتها في معيار السلوك والأخلاق ولكل دولة أن تسن في قانونها الجزائي العقوبة المناسبة في معيارها كما تشاء ولذلك تتفاوت العقوبات في كل دولة، ووضاع القانون الجزائي وعلم التجريم والعقاب يدركون ويعرفون هذا التفاوت ويسلمون به في القوانين الوضعية المستمدة من غير الشريعة الإسلامية وأتساءل هنا: أيحق لكل دولة ولكل أمة أن تسن وتضع ما تشاء من قوانين الردع والزجر حسبما تراه من فلسفة لمعنى الكون والإنسان والحياة، خطأ كانت الرؤية أو صوابا ثم لا يحق لخالق الكون والإنسان والحياة أن يشرع لخلقه، ما يتفق مع نظام كونه ويتسق مع وظائف عباده “كبرت كلمة تخرج من أفواههم…”.
ونريد أن نثبت هناك ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن الشريعة الإسلامية لا تجيز للقاضي في جرائم الحدود أن يعتمد فيها على قرائن الأحوال وحدها حتى يقيم الحد مثلما يعتمد عليها في القضايا المالية أو الإدارية، بل لابد في جرائم الحدود من البينات المنصوص عليها، فإن لم تتكامل البينة لم تجز إقامة الحد، ومهما تكاثرت قرائن الأحوال ضد المتهم وتوافرت القناعة لدى القاضي فلا تجوز معاقبته بأكثر من التعزير.
وأساس هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم “ادرءوا الحدود بالشبهات”، وأصبح هذا الحديث قاعدة فقهية أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء ولئن كان في بعض طرق هذا الحديث مقال فإنه على كل حال من الآثار التي تلقتها الأمة بالقبول ومضمونه حكم مجمع عليه مكتسب بذلك درجة اليقين والقطع.
الأمر الثاني: إن الشريعة الإسلامية شددت في بينة الزنى فشرطت طريقين لإثبات الزنى:
الطريق الأول: الاعتراف القاطع الصريح.
الطريق الثاني: شهادة أربعة برؤية فعل الزنى على حقيقته ولا تختلف شهادتهم.
الأمر الثالث: إن معظم العقوبات المترتبة في الشريعة الإسلامية على الجنايات والجنح والانحرافات المختلفة فوض الشارع تقديرها إلى بصيرة القاضي المسلم وهي التعازير لأنها خاضعة للتفاوت في شدتها وتتفق مع روح كل عصر وتجاوبه مع مصالح سائر الجماعات.
والحمد لله رب العالمين