إن صورة المجتمع الإسلامي الذي يصوره القرآن الكريم وتبينه السنة النبوية الشريفة واضحة تمام الوضوح، يمكن لكل دارس مخلص لكتاب الله والسنة النبوية، على قدر من العلم والفهم أن يتبين ملامح المجتمع المسلم، ويدرك خصائصه من الناحية النظرية والواقعية التي تمت في عقد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن العصور التاريخية التي مرت بالإسلام، وما ساد بعضها من فساد وانحراف كانت سببا في اختلاط صورة المجتمع الإسلامي في واقع الحياة واضطرابها في كثير من العقول والأفهام، أو شاب صفاء الصورة غبار، وأن يفتح باب التساؤل أمام كثيرين بعضهم مخلص تفجؤه الحيرة، وبعضهم شاك مرتاب أو عدو حاقد، مما جعل بعض المفكرين والدارسين يقول: إن التطبيق الواقعي للمجتمع الإسلامي لم يستمر إلا بضع عشرات من السنين ثم سادته جهالات متعددة وخاصة في مجال الحكم ونطاق المال وميدان الأخلاق مما ابتعد به في بعض الأحيان عن حدود الشريعة الإسلامية، وما كان في بعض فتراته من مظالم سجلتها كتب التاريخ التي دونت الحوادث واستقصت الأنباء، وما يزال كثير من المثقفين إذا عرضت لهم كلمة المجتمع الإسلامي تقفز إلى أذهانهم صورة مختلطة من مظالم الحكم والمال وفوضى الإدارة وكبت المرأة من الحقب التاريخية التي مرت بالإسلام، وينسى هؤلاء أن المبادئ لا تعاب بسوء تطبيقها أو إعراض الناس عنها، وإنما المُعَوَّلُ عليه هو صلاحية المبدأ للتحقيق ونجاحه في التطبيق، ولا يضر بعد ذلك أن يتعرض لطباع وآفات الخلق، فإن ذلك داء يمكن أن يعرض لكل قانون ومبدأ وكل نظام شريعة.
والمجتمع المسلم قام حقيقة واقعة، وحقق مثاليته في فترة لا تزال مرجعا للإنسانية، يمكنها أن ترجع إليه، ومشعلا يهدي إلى طريق مستقيم، وهذه الفترة على قلتها تحكى تجربة كاملة تشتمل على الجوانب الإنسانية جميعا، وعلى العلاج الكامل لكل ما يعرض للمجتمع من مشكلات وعقبات، ذلك أن الإنسانية واحدة في كل زمان ومكان، ولكن كان الاستبداد قد عرف طريقه إلى الحكم في فترات طويلة في تاريخ الإسلام، وإذا كانت مظالم كثيرة قد أشاعها أصحاب الأهواء وفسدة الأخلاق فإن ذلك لا يعني سقوط المجتمع المسلم.
فالمجتمع المسلم هو هذه الأمة التي التفت حول دينها وأقامت هذا الدين وطبقت شريعته وصحت فيها العقيدة ونجت من الأدوار التي بثها أعداء هذا الدين في كثير من الأنحاء.
وإن المسلمين اليوم في أمس الحاجة لمعرفة حقيقة مجتمعهم الذي شرعه لهم دينهم القويم، ولإدراك خصائصه الرائعة، فيقلعوا عن الهدم ويتطلعوا إلى البناء، ويوم يتمكنون من إصلاح مجتمعاتهم على المنهج الإسلامي سيجدون حقيقتهم ويدركون مكانتهم ومهمتهم في هذه الحياة، ذلك أن مجتمعات الشرق والغرب في هذا العصر لم تنجح في حل مشكلات الإنسانية ولم تستطع برغم ما تملك من وسائل أن تحقق السعادة للبشر، فليس أمر القوت والآلة فحسب، بل من وراء ذلك عناصر ضرورية يجب تحقيقها وهو أن يتاح للشريعة الخاتمة أن تهدي البشر للتي هي أقوم، وأن تحقق لهم الحياة الطيبة المطمئنة التي تتوازن فيها القوى، ويعم الخير والسلام.
أيها الأخوة: إن تحقيق المجتمع المسلم ضرورة تفرضها طبيعة الإسلام وتفرضها مهمته في هذه الحياة ذلك أن الإسلام هو خاتمة الرسالات الإلهية، جاء ليقود الحياة ويمسك بزمامها، وليضع أمام البشر منهاج حياة متوازنة مستقرة تتضح فيها نظرة متكاملة لهذا الإنسان، جاء ليضيء هذه الحياة أمام الناس ويمحو من دنياهم الظلام والضلال.
يقول تعالى في سورة إبراهيم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد}.
والإسلام لا يدع الناس يحيون بعيدا عن نور الوحي وهداية الله بل يبين لهم كيف يحيون في هذه الدنيا كما يريد ربهم ويرضى، وكيف يقيمون علاقاتهم في شتى المجالات وفق عقيدتهم ولا يرضى الإسلام عن مجتمع يعتمد مبادئ ظالمة، ويعتنق نظريات ضالة، ويحتفظ بعلاقات وقيم غير علاقات الإسلام وقيمه، ولا يرضى الإسلام بالانعزال عن الحياة في أنحاء مجتمع لا يرفع شعاره ولا يُعلي رايته، ولا ينزل على حكمه وهداه، يقول تعالى في سورة النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وهذه الآية تعني أن يرتضى المؤمنون أحكام الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأن تتحقق الغايات وتتأكد العلاقات التي أرادها الإسلام، وحين يحكم الرسول بين الناس فإنه لا يحكم إلا بما أراه الله من نور الوحي وهداه يقول تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}.
ولقد تأكد في القرآن الكريم هيمنته على الشرائع والأنظمة وإحاطته بالأهداف والمرامي جميعاً إذ هو تنزيل الحكيم الحميد الذي أحاط بكل شيء علما، فله من القدرة ما يحكم به على كل شريعة أو قانون، ومن الخبرة بالحقائق والتجارب ما يدرك به كل نزاع، ففي استطاعته أن يفتى في كل جانب ويهدي في كل سبيل ويقدم للناس ما هو خير من كل محاولة قاصرة أو فكر عاجل، يقول تعالى في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}.
والغاية التي جاء الإسلام من أجلها لا تتحقق إلا بتوجيه للمجتمع المسلم ورعايته، فهو قد جاء لرفع الأصر عن المستضعفين، وفك الأغلال عن المستعبدين، وتحقيق الحياة الطيبة والهداية للتي هي أقوم، على أساسها نظام كامل يهدف إلى إقامة الحياة المتوازنة المطمئنة على دعائم من معرفة الله وفي ظل من رضوانه.
إن للإسلام مبادئه في العلاقة بين البشر وله نظامه في الثروات والأموال ومنهاجه في القيم والمعاملات، وتوجيهه للشباب، وخطته للمرأة، وأسلوبه في الحياة واتجاهاته في الغايات والاهتمامات، وليس الإسلام شعائر وعبادات فقط، وحين يحال بين الإسلام وتطبيق مبادئه وتحقيق غاياته الاجتماعية يصبح معطلا عن عمله مصروفا عن رسالته، وذلك لا يكون أبدا والقرآن الكريم ينطق في وضوح وحزم بأن الحياة الاجتماعية لابد أن تكون في ظل الإسلام وعلى أساس هديه وتوجيهه يقول تعالى في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
أيها الأخوة: لقد كان من الواضح منذ نزلت آيات القرآن الكريم أن هذا الدين يختلف في أسلوبه وغايته عما سبقه من الرسالات الإلهيه، وإن كانت تلتقي جميعا عند معرفة الله والإيمان به والخضوع له، لكنها لم تخض المعارك الاجتماعية ولم تأت بمنهج ينظم مجالات الحياة ويعالج مشاكلها.
أما الإسلام فقد كان منذ أيامه الأولى يهاجم أوضاع المجتمع الجاهلي الفاسد، ويكشف سوءاته ويسدد ضربات قاصمة؛ إعلانا لخطته الاجتماعية وإشارة إلى أنه قد جاء ليقوض ذلك البناء المتداعي، ويقيم مكانه النظام الإسلامي، كان المجتمع الجاهلي قد فقد الأساس الأخلاقي السليم، وفشت فيه الأثرة وبدت فيه نوازع السيطرة والاستبداد وضاعت فيه حقوق الضعاف وأُهْمِلَ البائسون.
وقد واجهت آيات القرآن في مكة هذا الفساد وحملت عليه في مواقف متعددة، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفجر: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، فلن يرضى الإسلام عن مسلم يخلص في عقيدته وعبادته ثم يقصر عن دوره الاجتماعي، ويعيش في فردية وأثرة، لا يشارك في تحقيق الطمأنينة والعدالة في المجتمع، ومن هنا يعلن القرآن الكريم أن المساهمة في إشاعة الرحمة في المجتمع وشفاء الآلام والمسح على الجراح وتخفيف الأحزان هو التجربة الكبرى التي يجب أن ينجح فيها الإنسان، يقول تعالى في سورة البلد: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، ونرى القرآن الكريم يبرز المشكلات الاجتماعية التي كان يشيعها التظالم ويضاعف من بلائها الأنانية، والتكالب على المال في المجتمع الجاهلي ويدفع أبناءه إلى المسارعة في تحقيق التكافل والتراحم في المجتمع وبناء العدالة الاجتماعية على أسسها الراسخة، ويجعل ذلك محكا للإيمان واختبارا مؤكدا للعقيدة، وفي سبيل إقرار القيم الحقة للفطرة الإسلامية الشاملة والربط بين الجانب الاعتقادي والجانب الاجتماعي في الإسلام، يبادر القرآن في مكة أيضا برسم صورة مجسمة للمكذب بالدين، تتضح فيها النقائص الاجتماعية التي كانت تفشو في المجتمع الجاهلي، يقول تعالى في سورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين}.
أيها الأخوة: مضت السنون بالدعوة الإسلامية في مكة وهي تعيش في مجتمع يخالفها ويصد عنها ويعترض سيدها، فكان على الإسلام أن يمد بصره إلى ما وراء مكة ويتطلع إلى إقامة مجتمع جديد يصدر عن هديه ويقوم على مبادئه ويستهدف تحقيق الغايات التي جاء بها، وأصبح من الواجب على كل مسلم أن يهاجر إلى المدينة ويخرج من مجتمع الكفر في مكة حتى يضع لبنة في بناء المجتمع الإسلامي، وسارع المسلمون إلى الهجرة لا يمنعهم عنها مال ولا ولد، وذلك يدل على أهمية الخطوة التي خطاها المسلمون بتحولهم من مكة إلى المدينة وخروجهم من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإيمان، إنها لم تكن مغامرة ولا رحلة ولا لجوء ولا هربا، لكنه كان بناء المجتمع جديد على أساس عقيدة جديدة، ولولا ذلك لقُضِي على الدعوة الإسلامية في مهدها، وتتابع المهاجرون إلى المدينة ونزلوا على الأنصار وكان لابد أن تحكم الرابطة وأن يعمل الإسلام على تأكيد الأواصر وحث الخطى في بناء المجتمع المسلم، فلم يدع فرصة لنزعة نحو الانفراد أو نأي عن الجماعة أو خروج عن رابطتها، أو قصور عن واجباتها، ومن هنا كان الخطاب في القرآن دائما يتجه إلى الجماعة باعتبارها كيانا واحدا في التكاليف والفرائض: {يا أيها الذين آمنوا} وذلك حتى يشعر كل مسلم أن كيانه الحق في إطار مجتمعه وأن وجوده مقترن بوجود الجماعة التي تعينه على اتباع سبيل المؤمنين وتؤازره في سلوك الطريق المستقيم، ولذلك فقد ارتبطت العبادات في الإسلام بنزعة إلى المجتمع واستهدفت تأكيد الرابطة في مجتمع الإسلام.