الأستاذة الفاضلة/ ضياء سعود المجدلي حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فبناء على رسالتك الكريمة المتضمنة ترشيد حوارك ومواقفك من عبارة أوردها كاتب ضمن فقرة اقتصادية عن موضوع شراء القروض المثار والمقدم ضمن موضوعات مجلس الأمة ونص العبارة كما ورد في رسالتك هو “الإيهام بأن الاقتراض آفة وخطيئة” وتودين الاستفادة والاستناد لرأيي لمحاورة الكاتب من خلال ثلاثة أمور:
أولها: توضيح الرأي الشرعي لأمر الربا وذلك ضمن مفهوم الاقتراض كأداة اقتصادية مقدمة من قبل البنوك التجارية عالمياً وإسلامياً وعربياً ومحلياً.
ثانيهما: الإفادة لما تم استيعابه لقراءتي للعبارة السابقة.
ثالثها: إبداء الرأي لدوافع اللجوء للتنظير المتناقض لثوابتنا، خاصة عندما يأتي ذلك من شخصيات مسلمة.
وبناء على طلبك أرفق مع هذه الرسالة ما تفضلت بطلبه.
وتفضلوا بقبول فائق التقدير والاحترام
رئيس اللجنة
د. خالد مذكور عبد الله المذكور
عندما قرأت العبارة ونصها “الإيهام بأن الاقتراض آفة وخطيئة” ساندت قائلها وقلت: أن الاقتراض ليس آفة وخطيئة بل إن الأصل في الشريعة الإسلامية للاقتراض أو الاستقراض الإباحة لقول الله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” (سورة البقرة/ 282) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقترض، هذا هو الأصل هو الإباحة وقد يعتري الاستقراض أحكام أخرى غير الإباحة بحسب السبب الباعث على الاستقراض فيكون الاستقراض واجباً للمضطر ويكون مندوباً في حال عسر المدين، وقد يكون محرماً فيمن يستقرض قاصداً المماطلة أو جحد الدين، وقد يكون الاستقراض مكروهاً إذا كان المستقرض غير قادر على الوفاء وفي نفس الوقت ليس مضطراً للاستقراض.
وهناك أسباب باعثة للاستقراض منها:-
- الاستقراض لحق النفس ويكون الاستقراض هنا واجباً على المضطر لإحياء نفسه لأن حفظ النفس مقدم على حفظ المال، أما الاستقراض من أجل غاية غير مشروعة فإنه غير جائز كمن يستقرض ليشرب خمراً أو ليزني.
- الاستقراض للوفاء بالدين، ولا يلزم المعسر شرعاً الاستقراض لقضاء دين غرمائه لقول الله تعالى: “وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة”.
- الاستقراض للإنفاق على الأولاد والأقارب، فنفقه الصغار من الأولاد الفقراء غير المكتسبين واجبة في الجملة على الولد.
والشريعة الإسلامية نظرت إلى الاستقراض والإقراض نظرة إنسانية قائمة في التراحم والتكافل والتفريج عن المعسر واشعاره بالتعاون والتآخي إذ أن المحتاج قد لا يريد أن يأخذ من الزكاة أو الصدقات وقد يكون عسره مؤقتاً وليس دائماً فيكون الاستقراض باباً له ستراً لحالته ولذلك اشترطت الشريعة أن يكون القرض قرضاً حسناً وليس مشروطاً في عقد القرض بانتفاع الدائن من عملية الاستقراض فإن كان عقد القرض مشروطاً فيه انتفاع الدائن بزيادة على أصل الدين أو هدية وتم القرض على ذلك فهو حرام بلا خلاف بين الفقهاء، ولأن عقد الاستقراض عقد إرفاق وقربة، واشتراط المنفعة فيه للدائن إخراج له عن موضوعه وهو شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه.
وعلى ذلك فإن العبارة التي طلبت الإفادة لما تم استيعابه منها عند قراءتها إن كان المقصود منها القرض الحسن فأنا متفق مع كاتبها بأن من يتوهم أن الاقتراض آفة وخطيئة ليس صحيحاً، أما إذا كان المقصود من العبارة الاستقراض المشروط بانتفاع الدائن وهو ما يطلق عليه (الربا) شرعاً فهو لا شك آفة وخطيئة وكبيرة من الكبائر واستغلال وأكل لأموال الناس بالباطل، وهذا قد يدل عليه قول الكاتب بعد عبارته كما ورد في رسالتك وهو قوله “بينما هو (أي الاقتراض) في كل دول العالم المتقدمة يعني استغلالاً أفضل لموارد الاقتصاد وتقدم وكفاءة في أداء النظام المصرفي ما دامت هناك آلية للرقابة والعقاب على الأخطاء”.
إن هذه الجملة بعد العبارة المقصودة توهم بأنه يريد الاقتراض بفائدة كما هو حاصل في النظام المصرفي التقليدي.
ومن هنا أريد أن أبين – كما طلبتي – الرأي الشرعي لأمر الربا ضمن مفهوم الاقتراض باعتباره أداة اقتصادية مقدمة من قبل البنوك التجارية في عالمنا العربي والإسلامي وفي العالم جميعاً.
إن من البديهات التي لا تقبل المناقشة أن فكرة البنوك مبنية أساساً على المعاملات الربوية. وأن وظيفة البنك – كما يحددها أهل الاختصاص الأمناء – ما هي إلا التعامل في الديون أو القروض أو الائتمان. ويشمل هذا التعامل شقين.
الأول: الاتجار في الديون والقروض والائتمان، والثاني: خلق الديون والقروض والائتمان، والدين والائتمان هما وجها القرض، فمن وجهة نظر المدين يسمى ديناً، ومن وجهة نظرا الدائن يسمى ائتماناً، ولذا يمكننا القول أن البنوك تتاجر في النقود وأنها امتداد لسلوك اليهودي الذي كان مشهوراً لدى العرب وغيرهم حيث كان يضع نقوده على المنضدة ليقرض المحتاج بفائدة تزداد بمضي المدة التي تبقى فيها النقود عند من يقترضها، وقد بقى اسم البنك دالاً على هذه الصورة البغيضة.
ومن البديهات كذلك أن البنوك التجارية ما هي إلا واسطة بين المودع والمقترض، فهي تأخذ الوديعة من صاحبها، وتحدد له نسبة مئوية معلومة مقدماً من قيمة هذه الوديعة ثم تعطي الوديعة لمن يقترضها بنسبة مئوية سنوية أعلى، والفرق بين النسبتين هو الذي تربحه البنوك، ويعيش عليه العاملون فيها، وإذا شارك البنك في تأسيس شركة أو مصنع فإنه يشتري أسهماً محددة، وبنسبة ضئيلة يحددها القانون ويفرض على البنك أن يكون الجزء الأكبر من أمواله مستخدماً في القروض والأوراق المالية قصيرة الأجل، يعيد خصمها – بفائدة – إذا ما احتاج إلى سيولة مالية لدى البنك المركزي.
وبعبارة بينة موجزة: إن العمل الأصلي للبنك التجاري أن يأخذ القروض من الناس بفائدة محددة (12%) مثلاً ثم يعطيها لآخرين بفائدة أكبر (15%) مثلاً وفرق ما بين الفائدتين هو ربح البنك.
وما قاله الكاتب من أن الاقتراض (إن كان بفائدة) يعني استغلالاً أفضل لموارد الاقتصاد وتقدم وكفاءة في أداء النظام المصرفي، ليس مسلماً إذ أن ما يتصوره بعض الناس من وجود نفع وراء الفوائد الربوية تصور غير صحيح وذلك لوجوده:
أولاً: إن الذي يستقرئ أحكام الشرع يعلم علم اليقين أن الله البرُ الرحيم لا يحرم على الناس شيئاً طيباً ينفعهم نفعاً حقيقياً، إنما يحرم عليهم كل خبيث يضرهم أفراداً أو جماعات، وإذا كان بعض الناس يقول: حيث توجد المصلحة فثم شرع الله، فهذا صحيح فيما سكت عنه الشارع وتركه لاجتهادنا وعقولنا، أما فيما عدا ذلك فالصواب أن نقول حيث يوجد شرع الله فثم المصلحة، وهذا ما أثبته التاريخ وأثبته الواقع، وأثبتته الدراسة العلمية الموضوعية.
ثانياً: يؤكد كثيرون من فلاسفة الاقتصاد والسياسة: أن الفوائد الربوية وراء كثير من الأزمات التي يعانيها العالم، وأن الاقتصاد العالمي لن يكون بخير حتى تكون الفائدة (صفراً) أي تلغى الفائدة نهائياً.
ثالثاً: من الناحية العملية البحتة الاقتصادية بالنسبة لبلادنا العربية والإسلامية أضرت البنوك الربوية بالكثيرين من الحرفيين وغيرهم من ذوي الإمكانات القليلة في حين زادت الأغنياء غنى والأقوياء قوة، فإن البنوك تمنحهم قدرة على التوسع – بغير مال يملكونه – على حساب الجماهير العريضة من المستهلكين والضعفاء.
إن الفائدة الربوية – كما قال أحد الاقتصاديين بحق – (إيدز) الحياة الاقتصادية الذي يفقدها المناعة، ويهدد بالهلاك والدمار، وحسبنا أن ننظر إلى كارثة (الديون) التي قصمت ظهر العالم الثالث، حتى بلغت ديون أحد البلاد أربعة وأربعين ألف مليون دولار فوائدها الربوية إذا قدرت بـ 10% فقط تبلغ أربعة آلاف وأربعمائة مليون دولار فإذا أضيف إلى ذلك الفوائد (مركبة) وجدناها تتضاعف في سنوات قليلة كما عجزت البلاد المدينة عن دفعها في موعدها المحدد، وبهذا أصبحت مشكلة العالم الثالث ما يسمونه (خدمة الديون) أي دفع الأقساط والفوائد السنوية وهي شيء هائل تنوء به ظهور الأقوياء، فما بالك بالشعوب النامية المنهوكة.
إن دوافع اللجوء للتنظير المتناقض لثوابتنا المستقرة وخاصة عندما يأتي ذلك من شخصيات مسلمة، وخاصة في المجال الاقتصادي في قضية واضحة مسلمة قد فرغ العلماء من الرد عليها وإبطالها مثل التفريق بين ربا الجاهلية وربا العصر الحاضر، والتمييز بين ربا الإنتاج وربا الاستهلاك، ودعوى أن الربا المحرم ما كان أضعافاً مضاعفة، هذه الدعاوى التي رد عليها علماء شرعيون واقتصاديون كثيرون.
أقول إن هذه الدوافع التي تسطر ما يتناقض مع ما استقر عليه علماء الشريعة والاقتصاد في تجلية الفوائد الربوية وأنها من الربا المحرم تعود إلى عدة عوامل:
العامل الأول: الجهل بالشريعة الإسلامية في الجال الاقتصادي.
العامل الثاني: عدم الموضوعية والإنصاف عند بعض الكاتبين والمؤلفين عند تعرضهم للمجال الاقتصادي الإسلامي.
العامل الثالث: تأثر بعض الكاتبين بالفتاوى الشاذة ولو كانت من المتخصصين ومخالفة ما عليه المجامع الإسلامية ودور وهيئات الفتوى في الفوائد الربوية.
إن الفوائد البنكية التقليدية واعتبارها من الربا المحرم قد انتهى القول فيه بالقرارات الجماعية من عدة مجامع فقهية ومؤتمرات مصرفية نوجز في خاتمة ما كتب أهم قراراتها.
أولاً: قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة المنعقد في شهر المحرم سنة 1385هـ الموافق مايو 1965م. ومن أهم قراراته ما يلي:
- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
- الاقتراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة.
- الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
ثانياً: قرار مجمع منظمة المؤتمر الإسلامي في مؤتمره الثاني المنعقد بجدة في ربيع الثاني 1406هـ الموافق ديسمبر 1985م ومن أهم قراراته ما يلي:
- إن كل زيادة (أو فائدة) على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً.
- إن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصاد حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام – هي التعامل وفقاً للأحكام الشرعية ولا سيما ما صدر عن هيئات الفتوى المعنية بالنظر في جميع أحوال التعامل التي تمارسها المصارف الإسلامية في الواقع العملي.
ثالثاً: قرار مجمع رابطة العالم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في رجب 1406هـ ومن أهم قراراته ما يلي:
- يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا أخذاً أو عطاء، والمعاونة عليه بأي صورة من الصور.
- ينظر المجلس بعين الارتياح والرضا إلى قيام المصارف الإسلامية التي هي البديل الشرعي للمصارف الربوية، ويعني بالمصارف الإسلامية كل مصرف ينص نظامه الأساسي على وجوب الالتزام بأحكام الشرعية الإسلامية الغراء في جميع معاملاته، ويلزم إدارته بوجوب وجود رقابة شرعية ملزمة.
- كل مال جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعاً ولا يجوز أن ينتفع به المسلم – مودع المال – لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن من شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة للمسلمين، علماً بأنه لا يجوز للمسلم أن يستمر في التعامل مع هذه البنوك الربوية بفائدة أو بغير فائدة.
رابعاً: توصيات المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية المنعقد في الكويت 1403هـ – 1983م، ومن أهم توصياته ما يأتي:
- يؤكد المؤتمر على أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعاً.
- يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم من المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية – داخل البلاد العربية والبلاد الإسلامية، ثم إلى خارجها… ويتعبر الاستمرار في إيداع الأموال في البنوك والمؤسسات الربوية مع إمكان تفادي ذلك عملاً محرماً شرعاً.
هذا ما يسر الله لي كتابته وأرجو أن أكون قد استوفيت فيه ما طُلبت مني.
وبالله التوفيق
كتبه
د. خالد مذكور عبد الله المذكور