العطاء والعمل.. والسعي والامل في حياة..

جريدة الأنباء يوليو – أغسطس 2000 العدد 13

الهدوء صفة إنسانية جميلة ومحبوبة ولكن حينما تزدان بالعلم والمعرفة وحلاوة الحديث وسمو الأخلاق فأنها بلا شك تمنح صاحبها مكان اجتماعية مرموقة.. بل وتجعل الأفئدة تهفو إليه وتستمتع بالحديث معه.. وهذا هو ما حدث معي حينما جلست للحوار مع الدكتور خالد المذكور.. فقد كنت متهيبا من الحوار معه لأسباب عدة لعل من أبرزها الوقار الذي يتجلى في ذلك الرجل فلا تجد إلا أن تحترمه ولا تنطلق بأسئلتك كما تريد احتراما لتلك الخصوصية وذلك الوقار.. ولكن والحق يقال رغم تلك الخصوصية في المكانة والوقار الذي كان في نفسي لتلك الشخصية إلا أن تعامله معي وهو يستقبلني ببشاشته الجميلة والهدوء المحبب إلى النفس وعباراته اللطيفة كل ذلك جعلني انطلق معه في حوار أمتد لساعات طوال… أنا خلق من خلق الله تعالى بداية دكتور خالد المذكور أهلا بك معنا وبكلمات بسيطة من أنت؟ أجاب باسماً ومندهشاً ربما من نوعية بداية الحديث ثم قال: أنا خلق من خلق الله… من بين آدم  … وأحمد الله جل وعلا ان جعلني من ذريته… لأنه سبحانه أكرم البشر عن باقي المخلوقات فقال (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)… فالحمد لله سبحانه على ذلك التكريم وذلك التفضيل ونسأله تعالى كما حملنا الأمانة أن يساعدنا في حملها. وواقعيا ما هي السيرة الذاتية للدكتور خالد المذكور؟ خالد مذكور عبد الله المذكور… 54 سنة… متزوج ولدي ابنان من الذكور وبنت واحدة. والحالة العلمية والعملية تفصيلاً؟ ابتسم وقال: تفصيلاً!!! قلت: نعم. قال: البداية كانت الدارسة في المدارس الحكومية… ثم المعهد الديني. خريج كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر. نائب مدير إدارة المساجد بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية. معيد بكلية الحقوق والشريعة بجامعة الكويت. ماجستير ودكتوراه من الأزهر الشريف. مدرساً بقسم الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت ثم رئيساً للقسم. رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية/ بجامعة الكويت. بعد التحرير شكلت اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية… وتم انتخابي رئيساً لها. عضو في نقابات وهيئات شرعية في داخل وخارج الكويت. خبير في مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. عضو مجلس الأمناء في المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. معهد ومقدم برنامج مع الإسلام بتلفزيون الكويت. محاضر ومشارك في ندوات مختلفة. مشاء الله تبارك الرحمن… فمن أين تريد أن أبدأ؟ الأمر متروك لك. والدي كان يقول لي: كنت أخاف عليك من الانعزالية إذا كان الأمر كذلك فسوف ابدأ في أمر ربما تكون نسيته… أريد طفولة الدكتور خالد المذكور كيف كانت؟ ان تلك الفترة لا يمكن لي أن انساها انها أجمل لحظات حياتي وفيها أجمل وأنقى ذكرياتي.. لقد كانت طفولة عادية بريئة.. كنت من خلالها هادئاً جداً حتى أن والدي – رحمه الله – يحدثني فيما بعد حيث يقول: كنت خائفاً عليك من شدة الهدوء الذي تمتاز به.. كنت أخاف عليك من الانعزالية فكنت أدفعك دفعاً إلى الشارع لتلعب مع أقرانك وتكون لك مجموعة من الأصدقاء. هكذا كان يقول والدي عن طفولتي لكنني كنت أحسها ممتعة.. فأنا مثلاً أتذكر حوش منزلنا الكبير وكيف كنت ألعب به وبحرية مع أبناء عمي الأصغر مني سناً.. لا أنسى العائلة الكبيرة حيث كان عمامي يعيشون مع أبي في منزل واحد.. لا أنسى ذلك الجو الاسري المفعم بالعطف.. لا أنسى تعهد والدي لي يومياً في حفظ القرآن الكريم وتشجيعه لي.. لا أنسى ابداً اللذة التي كنت احسها بفرحه حينما أحفظ سورة جديدة من القرآن الكريم.. بل أنني لا يمكن أن أنسى تلك اللحظة حينما كانت فرحة والدي غامرة حينما استطعت أن أحفظ سورة الأحقاف كاملة وأنا في سن السابعة من عمري.. طفولة جميلة وذكريات كثيرة. العابنا الشعبية بسيطة لكنها ذهنية قلت إنك كنت تلعب مع أبناء عمك في فناء المنزل فهل تذكر لنا بعضا من تلك الألعاب؟ كنا نلعب في فناء الحوش وأحيانا خارجه.. كانت ألعابنا بسيطة، ولكنها كانت ذهنية وفيها الكثير من اللياقة البدنية.. كنا نحن نصنع اللعبة.. فمثلا كنا نأخذ الكافود من النخل ونصنع منه ما يشبه السيارة ونتسابق به في فناء المنزل.. كنا نلعب “التيل” وهي التي يسميها الأخوة المصريين “البليه” وهنا ألتفت إلي وقال: العاب جميلة كثيرة مثل صاده ما صاده.. حي الميد.. اللبيده.. المقصى.. إلخ، لكنها للأسف اندثرت الآن.. كيف تريدنا أن ننسى الليالي الجميلة خصوصاً في بداية فصل الصيف والهواء الممتع ليلا والليالي المقمرة “القمر شقاقي” هنا تحلو الألعاب وتتنوع. مجتمعنا القديم كان مجتمعاً نقيا متفاعلا هذا عن الألعاب فماذا عن غيرها من الذكريات في تلك الطفولة؟ إذا ركزت في اسئلتك على التقصي فلن ننتهي.. لقد كانت لحظات – كما قلت لك – سعيدة في حياتي.. كان هناك التشجيع والتكريم. ماذا تقصد بالتكريم والتشجيع؟ كانت بيئة نقية صالحة.. خذ مثلاً التربية البيئية.. فكنت أذهب مع والدي إلى المسجد فأجد الاستقبال الرائع والجميل من رواد المسجد (هذا يقبلني – وهذا يمسح على رأسي – وذاك يمتدح حضوري للمسجد – وآخر يدعو لي – والأخر يشد على يدي بالسلام يبعث في كيانك الرجولة). هذا التفاعل البيئي معك تجد نفسك من خلاله مجبراً أن تكون أنت ايضاً متفاعلاً معه فتحرص على أن تكون كما يريدون لك أن تكون.. صالحاً.. نقياً مع الاصحاب الانقياء النجباء.. لتبقى في نظرهم في المكانة المرموقة وحينها تشعر بالزهو وبأنك رجل بين الرجال.. أنها تربية بيئية فريدة عشتها وأستفدت منها.. لهذا أتمنى اليوم أن يعامل رواد المسجد الأطفال بمثل تلك المعاملة لنحببهم بالمسجد ونحبب المسجد إليهم. هناك مثال آخر في شهر الصوم فأنت مما تلاقي من تشجيع وأطراء تجعلك تنسى الجوع والعطش وتعب الصيام.. بل أنك تشعر من خلال تعاملهم معك على أنك عضو في المجتمع فتنمو نفسك وتزداد عزيمتك. أثناء اعتكاف الوالد وهو صائم في رمضان كنت أقدم له بعض الخدمات الخفيفة فكنت ألمح في نظرات المعتكفين الاعجاب والتشجيع فأزداد مضياً في الخدمة. كنت إذا جلست معه للحفظ ومراجعة القرآن اسمع ايضاً من رواد المسجد الاطراء والمدح فتزداد همتي وتقوى أرادتي. كنت حينما أسير في الفريج “الحي” وانا مرتدي الملابس الجميلة وذاهب إلى المسجد أسمع كلامهم وهم يرفعون أصواتهم كأنهم يريدون أن أسمع ما يقولون – الله يبارك فيه، رايح المسجد.. كلمات كلها تشجيع وتنمية للقيم الجميلة. هذه البيئة الإيمانية الأخلاقية سواء في المنزل أو الحي “الفريج” أو المسجد كانت هي الركيزة الأولى في بناء شخصيتي ورسم مساري فعشت في ذلك الجو الإيماني بتلك المعاني الأخلاقية ومنها ترسخت في نفسي القيم الإسلامية الأصلية التي أصبحت مع مرور الأيام سجية والحمد لله. والدي عصبي ووالدتي رحيمة وطفولتي جميلة ممتعة وماذا عن الوالدين والطفولة؟ كلما تذكرت مسار التربية مع والدي ووالدتي في زمني هذا أقف متعجباً. هل كان ذلك المسار اتفاقاً بين الاثنين، أم أن الثوابت والقيم الاجتماعية في ذلك الوقت فرضت ذلك النوع، ام أن العناية الإلهية أرادت أن أكون في تلك البوتقة من التربية. الحقيقة لا أدري.. ولكن أقول أن الوالد كان عصبياً والوالدة كانت رحيمة ودمعتها – كما يقولون – لا تفارق عينها .. والدي – رحمه الله – كان شديداً إذا رأى ما يخالف الثوابت فمثلاً حينما أتأخر عن الصلاة لأي سبب كان أجد الزجر والتأنيب فإذا تكرر الموقف يأتي العقاب بالضرب الغير مبرح ثم الصد ولكن لفترة فقط حيث يعود ويقبلني ويشرح لي سبب اتخاذ ذلك الموقف.. ولكن العجيب ان والدتي وطوال حياتي لم تناقض ما كان يقوم به أبي.. بل كانت تحنو علينا وتقف إلى جانبنا ولكنها دائماً كانت تظهر أن الوالد على حق وان ذلك من أجل المصلحة لنا جميعاً والأغرب من ذلك أنها كانت تقول لنا: أن الوالد ذا قلب طيب وهو وإن عاقبك فسوف يصالحك بعد حين.. وهذا ما يحدث بالفعل.. هل هو اتفاق أم وفاق.. أم توفيق من الله تعالى.. أقول: لا أدري.. ولكن هذا ما كان يحدث. كلما تذكرت جدتي تذكرت المرآة المسئولة إلا تعتقد أن تلك كانت خطة مرسومة من أجل التربية؟ لا أعتقد ذلك.. ولكن أقول أنها السجية الطيبة في تلك النفوس.. والقيم الراسخة في تلك الفترة.. والاحترام التام من المرأة للرجل.. خصوصاً إذا كان الرجل.. رجلاً في منزله.. وقد كان والدي – رحمه الله – من ذلك النوع كان عاملاً.. متديناً.. يشرف على كل صغيرة وكبيرة في المنزل فلا يتلف شيء إلا ويصلحه بيده ويمد يد العود والمساعدة.. أنه بكلمة واضحة اليوم.. أنه حرفي من الدرجة الأولى.. كان حتى سيارته يقوم بإصلاحها بنفسه إلا ما استعصى عليه وهو قليل ونادر.. بل أن تلك الروحية في الاهتمام بالمنزل انتقلت لنا وعززت في نفوسنا مبدأ الاقتصاد.. لقد كانت مشاهد حياتيه يوميه لأولئك الناس أنعكست ميدانياً على تربيتنا فيما بعد. ثم توقف لحظه.. كأنه يسترجع الماضي.. وقال: الله يرحمها.. قلت من.. الوالدة؟ قال: الوالدة موجودة أطال الله في عمرها وأحسن إليها.. ولكن أقصد جدتي – رحمها الله تعالى. إذن فلقد عاصرتها؟ نعم.. لقد كانت كالنحلة في المنزل.. حركة دائمة وإشراف متواصل.. كانت تعرف كل شيء في البيت وتشرف على كل شيء.. ببساطة كانت الدينمو في المنزل.. كانت تشرف على زوجات أبنائها جميعاً.. أنها عنصر الأمان في البيت. كان حلماً وتحقق واقعاً وماذا عن جدك؟ رحمه الله تعالى.. كانت لي معه ذكريات جميلة.. لا أنسى كيف كان يصطحبني إلى دكانه في سوق السلاح فأشعر بالحرية وأنال إكرامه بالهدايا والحلويات ولا أنسى كيف كان يحتضنني ويأخذني معه إلى غرفته لأنام معه.. كان حنوناً ومحباً لي.. لا أنسى روايته في المنام ولا أنسى رؤيتي له المتكررة. هل هذا لغز؟!! بل إنها عين الحقيقة.. لقد ذكر لي جدي ووالدي فيما بعد أن جدي رأى في المنام أن الله سيرزق والدي أبناً يكون متميزاً في العلم “عالم”… وكان جدي يدعوا الله لي أن أكون أنا ذلك الأبن. والاعجب ان الأمر تكرر معي شخصياً فأثناء دراستي العليا في مصر وكان جدي قد انتقل إلى رحمة الله تعالى.. كنت كلما حضرت إلى الكويت في العطلة الصيفية أشاهد جدي في المنام وقد أقبل نحوي مسرعاً وبشته “عباءته” تحت إبطه ويحمل في يده نعله “النجدية” وهو يخاطبني قائلا: ها وصلت بحمد الله.. ثم يختفي ولقد تكرر ذلك معي لثلاث سنوات متتالية وهذا أمر لا أنساه أبداً.. لهذا فأنا حاليا محبة به وبراً له أفرح إذا ذكر اسمه في سياق أسمي فقيل: خالد مذكور عبد الله المذكور… أفرح أكثر من ان يقال لي خالد المذكور فقط فأنا أريد أن يذكر اسمه معي دائماً. أين تفتيش طابور الصباح في المدارس وماذا عن ذكريات المدرسة الابتدائية؟ درست في مدرسة قتيبة الابتدائية وهي بالمناسبة المتحف العلمي حالياً.. كانت الدراسة على فترتين صباحية ومسائية.. ولا أنسى وجبتي الطعام للأفطار والغداء في المدرسة.. لا أنسى العناية من المعلمين بالطلبة فيومياً هناك تفتيش في طابور الصباح على نظافة الشعر والأظافر، والملبس والهندام والبدن.. إلخ، لقد كانوا أساتذة ومربين ومشرفين. وحادثة لا تنساها؟ حادثة التطعيم.. فقد كانت إدارة المدرسة في إحدى السنوات أصرت على أن يتم تطعيم طلاب المدرسة ولكن بعض الإباء رفضوا بل وأخذوا أولادهم من المدرسة ولكن الغريب أن والدي حضر إلى المدرسة وأصر على أن تتم عملية تطعيمي أمامه.. وقد تم ذلك.. وعرفت فيما بعد أنه كان حريص على ذلك لما تعلمه من استاذه الشيخ محمد العجيري والد الدكتور صالح العجيري والذي كان يهتم بهذه الأمور حينما كان والدي يتعلم عنده فتأثراً به بادر هو للاهتمام بي.. وما زالت أثار تلك الجرعة موجودة في يدي إلى يومنا هذا.. وقد سببت لي الأماً لأيام متعددة. اشتاق بشدة إلى المجتمع أيام طفولتي وخارج إطار المدرسة ماذا تتذكر؟ طيبة المجتمع وأمانته. ماذا تقصد؟ سوف أروي لك هذه الحادثة وهي تشرح لك ما أقصد.. في يوم ما أعطاني والدي ستة أنات (الأنة جزء من الروبية الهندية… وهي العملة المعمول بها في الكويت قبل الاستقلال) وكانت الأنات الستة تلك أربعة منها لشراء برايه والبقية كمصروف لي.. وفي الصباح شاهدت تزاحم الأطفال حول بائعة الحلوى.. فاندفعت مع الأطفال للشراء ومن شدة الزحام أعطيتها الأنات الأربعة بدلا من الانتين وأخذت الحلوى.. ولكن بعد أن تناولت الحلوى ذهبت السكرة وجاءت الفكرة – كما يقولون – حيث وجدت أن ما معي ما هو إلا انتين.. فكيف أحصل على المبرأة “البراية”؟ فعدت إلى المرأة وقد خف الزحام وشرحت لها ما تم.. فتفرست في وجهي.. ثم قالت: هل أنت متأكد.. قلت: نعم.. فما كان منها إلا أن أعادت لي المبلغ واشتريت البراية.. وعند عودتي للمنزل ذكرت ذلك لوالدي.. فما كان منه إلا أن أصر – رحمه الله – في اليوم التالي للحضور معي وشكرها على الأمانة والثقة.. فرسم على وجهها ابتسامة الاعتزاز بالنفس ولا أنسى تلك اللحظة أبداً. لقد نمت في نفسي الكثير.. كانت تجربة حياتية ولكنها رسخت في داخلي حب الصدق.. حب الأمانة.. حب رد المعروف للآخرين.. حب أثر الكلمة الطيبة.. إلخ، لقد كان مجتمعاً جميلاً فاعلاً متفاعلاً أميناً صادقاً متواصلاً.. وما أجمله من مجتمع. لا أنسى استاذي نجم الخضر وعصاته الطويلة والمعلمون في مدرسة قتيبة المعلم في السابق كان معلماً وإنساناً وأباً ومرشداً.. كان يمشي بين الطلبة في الفصل ويحدث الطالب مباشرة وعن قرب.. كان يشجعه بأن يربت علي كتفه.. أو يحذره بالتهويش بيده أو عصاته.. كنا نحس به متفاعلاً معناً قريباً منا.. كنت أذكر أحد أساتذتي يحاسبنا على كل شيء على الجلسة الصحية أو طريقة مسك القلم والكتابة.. كان يطالبنا بالإلقاء السليم.. يحاسب على طلاقة الحديث.. جمال الخط.. إلخ لقد كان المعلم يمتاز بالإخلاص والعطاء. ومدرس لا تنساه في تلك المرحلة؟ الأستاذ/ نجم الخضر.. كان مخلصاً في عمله متواضعاً في تعامله ولا أنسى طريقه ضربه بالعصا بالهواء وبالقرب منا تخويفاً وتوجيهاً.. كنا نخاف من عصاته التي لم تمسسنا أبداً وهناك العديد من اساتذتي الذين لا أنساهم.. منهم الشيخ عبد الوهاب الفارس بوقاره وعلمه الواسع.. وكذلك الشيخ محمود فايد ذلك الأستاذ الخطيب.. لا أنسى مواعظه النادرة وقصائده الوطنية وايضاً استاذي الفاضل يوسف فتح الله بقامته المديدة وشرحه الممتع للغة العربية.. والحقيقة أنني احمد الله دائماً أن هيأ لي تلك النوعية المميزة من المعلمين. معلم الأمس أكثر تأثيراً من معلم اليوم لأسباب ومقارنة بين معلم اليوم ومعلم الأمس.. ماذا يقول عنها الدكتور المذكور؟ معلم الأمس اتيحت له فرصة أكبر في التأثير وذلك لعدة أسباب منها: – قلة الطلبة في الفصل. – التقدير المادي والمعنوي الذي كان يحظى به المعلم سابقاً. – كان المعلم يتم اختياره من خلال لجنة فكانت لا تأتي إلا بالصفوة. – النشاط الطلابي المتنوع وتواصل المعلم مع الطالب من خلاله كل ذلك كان مساعداً للمعلم مع اخلاصه وتفانيه أن يكون أكثر تأثيراً وفعالية. اما المعلم اليوم فهناك مشاكل يعاني منها مثل: – كثرة الطلبة في الفصل. – عدم وجود التقدير للمعلم بالصورة المطلوبة. – تغير نوعية وأخلاق بعض الطلبة. – إحساس المعلم بعدم الاحترام. كل تلك الأسباب وغيرها جعلت فاعلية المعلم أقل عما كانت عليه. لا أنسى هدية مشرف المكتبة وماذا عن ذكريات مرحلة الشباب؟ مرحلة الشباب كانت مرحلة تفتح ذهني وعلمي.. كنت دائماً من أصدقاء المكتبة.. ولا أنسى هدية مشرف المكتبة لي. وماذا كانت تلك الهدية؟ كتابان هما – الفتوة في الإسلام – إلى زوجة المستقبل. ولماذا لا تنسى؟ لأن كتاب الفتوة قدم لي الصورة الناصعة عن الفتوة الإسلامية الحقه وما فيها من صفات الكرم والفداء والتضحية.. لقد رسخ في نفسي وعن قناعة تلك القيم السامية. أما كتاب “إلى زوجة المستقبل” فقد كانت دهشتي كبيرة حينما قدمه لي استاذي في المعهد الديني وهو يقول “لقد رأيت فيك علامات الهدوء والجد والتفرغ لطلب العلم وهذا الكتاب يحفظ عليك شبابك وايضاً يقدم لك صورة واضحة عن زوجة المستقبل وفقاً لقواعد الشريعة الإسلامية وهو بذلك يحفظ عليك عواطفك”.. ولقد كانت فعلاً كما رسمها لي استاذي في كلماته. القراءة هي مفتاح التفتح الذهني قلت أن مرحلة الشباب كانت بالنسبة لك مرحلة تفتح ذهني وعلمي.. لماذا وصفتها بذلك؟ قبل أن أجيب عليك لابد من الإشارة إلى نقطة هامة وهي أنني أحمد الله جل وعلا أن جعلني في وسط أسرة تحب العلم وتحرص على العقيدة إضافة إلى أن الله من علي من صغري بصحبة صالحة وطعم كل ذلك بنوعية من المعلمين تقدس المهنة وتخلص في العطاء.. وهذا ما جعلني مكباً على القراءة.. وهي مفتاح ذلك التفتح الذهني والعلمي الذي أشرت إليه. كنت أحب القراءة وخصوصاً في الشعر وقرات الشوقيات لأحمد شوقي واتذكر فرحة وسرور والدي – رحمه الله – وانا اقرأ عليه قصيدة ولد الهدى ولحبي للشعر أحببت العروض “اوزان الشعر” فكنت أقطع البيت الشعري وأعرف وزنه. هذه القراءة علمتني أن أدون بعض المقتطفات التي تعجبني وايضاً عن العائلة متى ولدت فلانة؛ وماذا ولدت؛ وما أسمه؛ وأحداث يومية كانت تجري.. أحس الآن بسعادة غامره وأنا أرجع إليها واقرأها.. ولا أخفيك سراً أنني ما زلت احتفظ برسائل والدي التي كان يرسلها لي وانا في مصر للدراسة هناك وكيف كانت تلك الرسائل تمثل لي الصورة الكاملة عما يجري في الكويت وفيها الكثير من الأحداث التاريخية وقد حفظتها الآن على دسكات في الكمبيوتر. تكريم لي ورسالة لوالدي وماذا قدمت لك هواية القراءة تلك؟ قدمت الكثير والكثير جداً.. إنها بناء ولسنوات عدة لشخصية خالد المذكور بل إنها خدمتني حتى في بواكير حياتي العلمية وميزتني على أقراني. كيف؟ إجابتي على سؤالك تتلخص من خلال ما سوف اسرده لك عن بحث كتبته عن الحطيئة الشاعر وانا في المعهد الديني.. فقد طلب منا استاذنا الشيخ محمد الدراجيلي أن نكتب بحثاً.. ولحبي للشعر كنت اقرأ للحطيئة وأعجبت بطريقة الهجاء عنده حتى أنني ضحكت كثيراً في ذلك الوقت حينما قراءت له وهو يهجو نفسه فيقول: أرى لي وجهاً قبح الله شكله …. فقبح من وجه وقبح حامله وكتبت ذلك البحث في عشر صفحات.. وكم كانت دهشتي حينما أخبرني استاذي أن شيخ المعهد عبد المجيد القمي أعجبه بحثي وهو يريد تكريمي في حفل يضم الأساتذة وبعض الطلبة في مكتبة المدرسة على أن ألقى البحث على مسامعهم.. وكانت لحظات لا تنسى وشعور بالفخر لا أنساه وانا أرى ذلك الاهتمام وذلك التشجيع.. بل إنني لا انسى رسالة مدير المعهد لي ولوالدي شاكراً تلك الجهود وذلك التميز.. والحقيقة أن ذلك التكريم كان حافزاً لوالدي. وكيف كان حافزاً لوالدك؟ حينما وصلت رسالة شيخ المعهد له تحمل معاني الشكر له على تربيته لي واهتمامه.. زادت الحماسة لديه فانطلق إلى مكتبه الرويح وأحضر لي مجموعة من الكتب الجميلة والمشوقة والقيمة.. واستمر فيما بعد يحضر لي الكتب مما زاد في حصيلتي العلمية والثقافية وزاد في تفتحي الذهني وادراكي للحياة.. بل إن الوالد قام بتسجيلي في معهد الدراسات العالية في شارع فهد السالم حتى أتعلم الطباعة. وهل تعلمت الطباعة؟ تعلمت الطباعة وبتفوق حتى أن الوالد اشترى لي آلة طباعة صغيرة حتى أستمر في الحفاظ على ما تعلمته.. وكانت هدية جميلة من الوالد لمناسبة جميلة لي شخصياً. أجمل هدية من أعز شخصيتين وما هي المناسبة الجميلة لك؟ كنت من المتفوقين في المرحلة المتوسطة وأتذكر ان وزارة التربية أقامت حفلا تكريمياً كبيراً للمتفوقين حضرة الشيخ صباح السالم الصباح – رحمة الله – وكان في عيد العلم.. وكم كانت فرحتي وأنا ألبس الوشاح وأكرم شخصياً من الشيخ صباح السالم – رحمة الله – وحصلت على خمسين ديناراً كويتياً… وما أن عدت إلى المنزل وقدمتها للوالد حتى ذهب في اليوم التالي وأحضر لي بها آلة الطباعة فكانت أجمل هدية من أعز شخصيتين في أجمل مناسبة (فالهدية من الأمير والتصرف من الوالد والاحتفال في يوم العلم والتكريم كان جماعياً ورائعاً).. وتلك ذكرى كأنني أشاهدها الآن أمامي. هواية القراءة حفظت مسار حياتي من الزلل قلت لي أن القراءة قدمت لك خدمات كثيرة من بينها أنها رسمت لك خط مسار حياتك.. ماذا تقصد بذلك؟ مسار حياتي بفضل الله رسم من تربية منزلية صالحة ومن صحبة صالحة ومن معلمين مخلصين فجاءت القراءة لترسخ كل تلك التجربة.. فكانت القراءة ستاراً لي فيما بعد حيث بنت شخصيتي الحياتية والعقائدية على أساس سليم فحفظت مسار حياتي من الزلل.. حتى أنني في مصر كانت خير معين لي في الغربة فكنت أقضي وقتي في القراءة والتحصيل العلمي بل وشجعتني على متابعة العلماء ونشر العلم.

Scroll to Top